عندما تكتب الأنثى لا بد أن تشمَّ عطرها من بين السطور، أو في ثنايا الحروف. ولكن عندما تكون هذه الأنثى هي عائشة اﻷصفر فإن العطر سيكون تركيبة معقدة من الفلسفة والشعر والصراعات الأزلية الأبدية بين الروح والجسد، بين العقل والنفس، بين الأصالة والحداثة، بين الريف والمدينة، بين المرأة والرجل.. بين كل شيء وكل شيء، وكأنها تريد أن تقول بأن الصراع هو سر الوجود ومادته الأولى، وهو المحرك الأول والأوحد والأساسي للتاريخ. كل ذلك تقوله عائشة الأصفر في رحلة قصيرة هدفها المعلن: البحث عن (اللي قتل الكلب)!
الأمور لابد أن تُحسم في بداياتها! هكذا ينصحنا العجوز الحكيم حين قال: “اقتلوا اللي قتل الكلب“. لا أدري! هل كان الحكيم يتكلم على لسان عائشة الأصفر، أم أنها هي تتكلم على لسانه؛ لتنصح قارئها بأن يختار بين أمرين: إما أن يُسافر معها في رحلتها محمولاً على أكتاف الكلمات الرقيقة، فيستمتع بلغتها الشعرية، وبقصة الغرام التي كاد أن يُفسدها المنام. وإما أن يختار الغوص في دهاليز الفلسفة، وعلاقة الروح بالجسد، والجسد بالشهوة، والشهوة بالحب، والحب بالقيم، والقيم بالإنسان، والإنسان بكل أسئلته المفتوحة على الخواء! فإن اخترت الأولى فإنك ستنعم ولن تغنم! وإن اخترت الثانية فإنك ستغنم ولن تنعم!
لكنني في هذه المرة تغلبتُ على كيد الأنثى، فقرأتُ الرواية مرتين؛ مرة تنعمت، ومرة غنمت، دون أن أدعي بأنني ظفرتُ بكل الغنيمة!
في الحوار بين الروح الهائمة الطليقة، وبين الجسد السجين المقيد فيزيائياً بالزمان والمكان، توردك الكاتبة موارد الأسئلة، ثم تصدر بك وقد ازداد عطشك للإجابات! وكأن الهدف هو السؤال في حد ذاته! وكأن الإنسان خُلق ليسأل، أو كأنه خُلق من علامات استفهام لازبة، أو لعلها تريد أن تقول لك: أنت تسأل؛ إذن أنت موجود!
لكنني لا أنصح القارئ بالغوص في أعماق الفلسفة، فتجرك الأسئلة إلى بحرٍ لا قرار له، وإنما أنصحه بأن يظل على الضفاف، حيث الشعر، والرقة، وقصة الغرام التي يتدخل المال ليُفسدها، ثم نكتشف أن تدخل المال ما هو إلا هاجس من هواجس العاشق الولهان، وكابوس من كوابيسه، تراءى له في غفوةٍ من غفواته!
(اللي قتل الكلب) رواية شعرية، أو قصيدة روائية، يكاد الشعر يتفلت من بين ثناياها، كما تفلت عطر الأنثى في صفحاتها، وحبائلها في حبكتها، ورقتها من صرامتها. بل إن الشعر يفضحها فيخرج سافراً واضحاً، ليكسر جدية الفلسفة، وليطري من صلابة الوجوم، فتقول الروائية: “.. أم لأن الضاد يهوى فهوينا الضد فيك.. أم هي الخيمة تسقط (صدمه الحرف اللصيق)؟ أم تراها قد تدلت بعد موت الشعر فيك؟“
والآن.. حاول أن تقرأ ما بين علامتي الاقتباس بطريقة الشعر، أليست هذه أبياتاً أريد لها أن تكون نثراً، فعصت كاتبتها وصارت شعراً، فاعلاتن فاعلاتن، فاعلاتن فاعلاتن…
هكذا هي الأنثى.. تخونها صلابتها، ويفضحها لينها، حتى وإن تظاهرت بالجدية كأستاذة فلسفة! الأنثى لا يُمكنها أن تكون قاتلة حتى على الورق. فبالرغم من أن الرواية بدأت بقتل كلب، وانتهت بحزام ناسف يُحوِّل الحاضرين إلى أشلاء.. لكن رقة الأنثى تأبى إلا أن توقظ (دنقلة) من كابوسه، لنكتشف أن كل ما حدث هو مجرد جولة من جولات الروح في عوالم الميتافيزيقا، وأن الجسد لا يزال هنا يُطارد أنثاه عاشقاً ومتيماً، وتطارده الأسئلة في كل حين. ويلعب تحت المطر طفلاً بريئاً يُغني للمطر على إيقاعاتها الواعدة بالحياة!
_____________________
صحيفة فسانيا، 20 فبراير 2017