سمية أبوبكر الغناي
تَراكمت في قَلبي غَصّات، وتَزاحمت دَعوات وصَلَوات ومناجاة، لَمْ يكنْ عامًا خصبًا ولا سيئًا، ولكنِّي اكتشفت أنه كُلمّا ازددت عمرًا ثَقُلت المَسْؤوليات، وتَبَنَيْتُ تَدمرًا تَلاشَت مَعَه شيئًا فشيئًا بَهرجاتُ الحَيَاة. رِحْلَتِي هذه المَرة جَاءت بعد عامٍ اكتست فيه روحي صِفَتا السُكونِ والترقُب، سُكونٌ ليسَ بسلامٍ ولا تصالحٍ بل سُكونُ الجَمَاد، سُكُونٌ كَمَاءٍ فِي جَدْولٍ صَغيرٍ هَدأَ الهَوَاءُ حَوْله وسَكَن مَصَبه فَشُلّت حركته وفَقَد جُزءً كَبيرًا من جَماله وحَيوِيتِهِ، ولم يكنْ هذا السكونُ جديدًا غير معتاد وإلا لشَابَهُ الخَوفُ مِثلما حدث مُنذ أعوام؛ وَهْوَ لَيس صِحيًا كَذَلك، فَلَقد غَطت العَتَامة صَفاء الرُّوح كَعَكْرَةِ ذَلِك الجَدول السَّاكن، وَلَمْ أَعُد أَمْلِك سِوى الترَقُب وحَتى ذَاك فَقَدَ مِيزَةَ الإِدْمانِ والتَّعصُبْ، لا أكْتَرثُ بِما سَيَحْدُث فهو سَيَحْدُث، ولن أَتَعصَّبَ لِفِئَة دون أُخرى بل أَجَدْت دَور الحِيَاد لِمُتَفرجٍ غير هاوٍ لمصارعة غريبة وفشل ذريع.
في خضم كل ما يحدث استمرت عجلة الزمان لم تتوقف لعلَّ حولي يُصْلَح شَيْئًا فَشَيئًا فَيرجِع إلى عادته أو يُحَسَّن لِيُصْبِح أَفضل مِمّا كان عَليه. ورغم اعتيادي عليها، ما تزال دورة السكون والترقُبِ تِلْك صَعْبَةً مَرِيرَةً، لَكنَّنِى في كُلِّ مرةٍ أَسْتَيْقُظُ من غَيْبُوبَتي لِأُبْصِر مَشاهدًا مؤذية وحَقائِقًا مُرَّوِعة، وأَرَى دَوَّامَةً نَسِيرُ فِيها جَميعًا بِلا وَعي، فألجأ لمُناجَاته وأهرب من يَقَظتِي لِمَنامي لَعلِّي أَستيقظُ عَلى واقعٍ جميلٍ.
ولِأَسْتَعِد لِرِحلتي تِلْك رتَبْت حَقَائِبي والسعادةٍ تغمرني، فَرِحْلَتِي وَوِجْهَتِي السَّعَادة، وكَأَنَنِّي تَخَلَّصْتُ مِن قُيودِ وخيباتِ عامٍ منصرمٍ منثور، وتحرّرتُ من كل بؤسٍ وقصور، ولَكأَنني أستشعر قدرة خارقة وسلامًا روحانيًا مُكللًا ومزدانًا ببهجة وسرور، فكل ذرةٍ من كياني مُحَاطَة بِهالةٍ من الطاقةِ الإيجابية تُزيلُ ندبات جِرَاحٍ وخَيْبَاتِ وغَصَّاتِ عَامٍ مُرٍ آخر مَرَ، مَرَّ وانعطف بلا أسى لعلّ ما يليه يُنسينيِ وَحْشَةَ الرحْلة الماضية ولَعلّ الباقي من الدرب اليُسر.
ومَعَ وِلاَدَةِ الهِلال، بَدَأت رِحْلةَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْآمال، رِحْلَة المُقَايضة والاسْتِبدال، لا بل رحلة شفاءٍ لِكُلِ شقاءٍ رغم قِصَرها إلا أنَّ البركة فيها عظيمة؛ ولهذا تعهدت أَنْ أَستبدلَ كُلَّ أَلمٍ وَكُلَّ خَطَأ وقصور بكل ما يُشْفِي الصُّدُور، ولَنْ أَخجل دمعًا ولا بكاءً و لا نحيبا، فالطَّبيب قريبٌ مجيب، وعدنا بأن يَسْتجِيب وَرَجَاؤُه لا يخيب، وهكذا جّرَدُّت روحي من بشاعة كل ما تقترف وتجد، ولن أُضيع فرصة ملاقاةِ طبيبي لِأُناجِيه وأَسْجد، لعلّه وهو الحليم أن يستأصل عنّي ذنوبي و خَطاياي، ويُشْفِي أَسْقامي وبَلوَاي، فَتَطِيب رُوحي وتَحيَا بعد عامٍ آخر مَرَ ولا أدري كيف مَرْ، ولَعلِّي بذلك أُسجل في صحيفتي ما يَسُرْ. فأوصيكم ونفسي بالفرار من أنفسكم إليه، في أسمى رحلة يكافئنا الله بها بعد عام مُضنٍ انصرم من أعمارنا بخيره وشره بِحُلْوِّه ومُرِّه، وعليكم باقتناص الحسنات واستبدال ما أمكنكم من زلات وهفوات وسيئات، ولا تبخلوا على أنفسكم وأحبائكم بدعوات، فشهر الله الكريم هذا هو شهر المعجزات، وأوصيكم ونفسي أن نجعل لعمار الوطن نصيبًا من الدعوات.