سرد

مقطع من رواية (صندوق الرمل)

من أعمال التشكيلي الكويتي محمود أشكناني

اعتلت المغنية جيا جارسيندا منصة مسرح بالبو في تورينو ليلة الثامن من سبتمبر 1911، محطّمةً كل التوقعات الفضائحية المعتادة حين أطلّت شبه عارية، تغطي مفاتنها بقطعة صغيرة من العلم الإيطالي بألوانه الثلاثة، وأنشدت بصوت أوبرالي فاخر أغنيتها الجديدة: “تريبولي بيل سول دامور” (1)*. لكن ساندرو كومباريتي الذي استقل قطار السادسة بتذكرة مجانية من ميلانو، وسيقضي ليلته في غرفة مرفهة، ويحمل عشرين ليرة كاملة للتسكع مع الأصدقاء، لم يكن سعيداً على الإطلاق.

كانت أضواء الكشافات المسلطة من السقف تنهمر على الركح في شكل نجوم ودوائر متراقصة، تميل قليلاً لتكشف وجوه عازفي الأوركسترا  ثم تستقر على جسد المغنية المنفلت بإغواء متعمد، قبل أن تتحول إلى فقاعات صغيرة يبتلعها الظلام، ومع انهمار الضوء وتصاعد الأوبريت وانثناءات الجسد العاري، يتدافع الجمهور فوق المقاعد ويطلقون هتافات ماجنة متبوعة بتصفيق محموم، أما ساندرو الذي انحشر واقفاً في زاوية ضيقة بين صف المقاعد والجدار، كان قد تلقّى ما يزيد على ثمان لكمات من أفواج المتدافعين، أصابت وجهه وعنقه وأماكن أخرى من جسده، كما تلقى وكزة غير بريئة في مكان حساس جعلته يتلوى من الألم، ما زاد الأمر بؤساً هي تلك الرائحة النتنة التي تنبعث من إبطيّ الرجل الضخم الملاصق له كلما رفع ذراعيه عالياً ليصفق، أما العجوز النحيل الذي يتشبث بمسند الكرسي خشية أن يدفع به أحدهم إلى الأرض فقد أطلق ريحاً ممزوجة برائحة براندي سيء التقطير، عندئذٍ صرخ ساندرو من شدة الحنق، ولعن كل الحاضرين الذين أفسدوا متعة الليلة التي انتظرها طويلاً.

أخرج من جيب معطفه قصاصة تحمل صورة جارسيندا كان قد انتزعها من ملصق الدعاية المثبت على مقصورة القطار، كانت ترتدي فستاناً ريفياً ينسدل بغنج عن كتفيها تظلله قبعة بيضاء كبيرة، وتجلس على كرسي من الخشب باتجاه مقلوب وقد احتضنت المسند بذراعيها في مشهد حالم، لطالما أسرته تلك الابتسامة المتعالية التي ترتسم على الزاوية اليمنى لشفتيها، فيما تنحسر عن اليسرى في قسوة متعمدة، وتساءل لماذا تقبض نصف ابتسامتها كأنها تضن على عشاقها بجمال كامل، حاول الاهتداء إلى إجابة من اللحظة المزدحمة بالضجيج، حيث تقف نجمته هناك، بعيداً جداً، حتى بالكاد أن يراها من خلف الأجساد المتراصة، تثمّن الفكرة السخيفة التي تقول إن جمال الأشياء في عدم اكتمالها، وكاد أن يسلّم بما خلص إليه من شعور بالرضا، وقناعة مُرتجاة من ظروف غير مواتية، لولا أن يداً بحجم مجرفة امتدت من خلفه وانتزعت قصاصة الصورة، شاهدها وهي ترتفع ويعلو معها السعار المجنون، تمتد إليها أياد أخرى تحاول اختطافها، لكن صاحب اليد الضخمة طرح جميع الأجساد أرضاً، وشيّع الصورة عالياً فأرسلت له جارسيندا من على الركح قبلة في الهواء، حينها غشي ساندرو من الغضب، ولعن الأقدار والحكومة والملك عمانويل الثالث والفيلق الرابع والثمانيين مشاة. تلفت باحثاً عن بصيص مواساة عند رفاقه الذين اختفوا في دهاليز المقاعد، فلم ير أحداً منهم، أصبحت حمّى التدافع في أوجها الآن وارتفع إيقاع الأوبريت متناغماً مع طبقة السوبرانو متسارعاً إلى أقصى مداه لتنشد جارسيندا المقطع الذي أصبح سيء السمعة فيما بعد:

طرابلس..

أرض الحب المسحورة..

ستغدو إيطالية بهدير المدفع..

اذهب أيها الجندي..

إيطاليا معك..

والمواسم الحلوة تنتظرك.

حينها تقافزت الأجساد بشكل هستيري وانفجرت صرخات ضخمة، منتشية بسكرة وطنية كبرى ومهووسة بشيء غير مرئي، وامتدت أياد تقبض على مدافع افتراضية، وأخرى تقتطف فاكهة وهمية بشكل شهواني، وأخرى تلوح وتجدّف في الهواء دون أن تلوي على شيء، وكانت جارسيندا تتماهى بسطوة أنثوية مع الانبعاث الخصيب للحلم القومي، فتنزع من الذاكرة ما كان من الهزائم المخزية الأليمة، وتطبع ترنيمتها على الحناجر والشفاه بشطحات هذيانية مجنونة، وحتى عندما انتهى الحفل وأغلقت القاعة عنوة وتدخلت قوة من الشرطة لتأمين خروج جارسيندا دون احتكاك أو تحرش مباشر، ظلت الأغنية تُردد في الشوارع والحانات والمقاهي وشرفات المنازل ومحطات القطارات، وشيئاً فشيئاً بدت تخفت الأصوات الرافضة للحرب، وتبدّلت لهجة الصحافة التي كانت تهاجم الحكومة، وتحدّث الفلاحون بشوق غامر عن وفرة المحاصيل في واحة (تريبوليتانيا) التي تنتج زيتوناً بحجم التفاح، وأصبحت تلك الأغنية هي الترنيمة الوطنيةً الخاصة بتحشيد الجنود الذاهبين للحرب.

مضت نصف ساعة منذ انتهاء الحفل دون أن يوفق ساندرو بلقاء رفاقه، خمن أنهم غادروا مباشرة إلى الفندق لتناول العشاء والنوم باكراً، إذ أن فكرة التسكع في هذه الليلة تبدو غير مجدية أمام المد الهائل من ضوضاء الحرب ومناقشات السياسة والأغاني الحماسية التي تنطلق من مقرات الأحزاب القومية، وملصقات الاشتراكيين على واجهات المباني تحرض على الإضراب العام، وهتافات المستقبليين تنادي بالفوضى الهدامة، وبالحرب لتطهير العالم من المتاحف والمكتبات والشعوب الضعيفة، جزم آسفاً أن تورينو الصاخبة الجميلة لا يمكنها أن تهب فتنتها الليلة إلى جنود على حافة الموت. لقد كانت دائماً مدينة عاشقة وملهمة وحبلى بالحياة لكنها تأكل عاشقيها مثل عنكبوت شبقة، لطالما سحرته بأحابيلها السرية وهو يذرع أزقتها القديمة النائمة على ذراع نهر البو، يتنشق رائحة خبز الشوفان والبخار الحلو المنبعث من معامل الشيكولاتة، يلاحق عازف أرغن فقير يبيع سيرنادات قصيرة لعشاق متسكعين، ويسمع من السكارى في الحانات القديمة قصص أجدادهم من متسلقي الجبال الأشداء الذين هبطوا من قمم الألب واستوطنوا السهل الفسيح على نهر البو، لكم سحرته قصص التاريخ حين يسردها السكارى تحت وطأة الوهم اللذيذ، ينتحلون أدوار البطولات، ويشيرون بقبضات أيديهم في إيماءات عنيفة إلى قتالهم ضد الغزاة من بلاد الغال والبرابرة والجنرال هانيبال الليبي عندما اجتاح روما في الحرب البونية الثانية، ويطلقون اللعنات بلكنة مثالية على النمسا وملوك اللومبارد والفرنسيين ودوقيات السافوي.

كان شيئاً ما في نفسه يتوق إلى تورينو، إلى أناقتها المفرطة وجنونها المعماري الجريء وأروقة البازيليك والقباب الاهليجية المسكونة بالغموض والأساطير، كان مفتوناً بسحرها منذ أن كسر قيود الطفولة وتخلص من الوقار الكنسيّ الذي سيجته العائلة والكتب والصلوات، إنه التوق إلى الحرية ولذة الاكتشاف وتشكل الذات، ولم تكن تورينو في نظره إلا وجه إيطاليا الحقيقي بكل تناقضاتها وقومياتها ولهجاتها وهزائمها وأحلامها الرومانسية الوطنية. وكلما عاد إليها تتراءى له بسحر مختلف، وطزاجة متجددة، هذه المرة كان توقه مشفوعاً بحلم اللقاء بنجمته المحبوبة ملكة الأوبريت الإيطالي، أمّا وقد رحلت في سيارة فيات سوداء تحت حراسة مشددة، فلم يعد هنالك شيء يدعو للإثارة، قال متحسراً عندما خاطبه شرطي مع حشد من الجماهير أمام المسرح طالباً منهم المغادرة كاحتراز أمني ضد المظاهرات وأعمال الشغب التي تغذيها التيارات الاشتراكية، وشعارات العنف التي ينادي بها المستقبليون. شعر بالأسف لأن رفاقه على الأرجح قد آووا إلى الفراش ملتزمين بقوانين الجندية التي أعادت ترسيم عاداتهم ليكون النوم في التاسعة مساءً بعد وجبة عشاء تسبق بساعة على الأقل. في حي بورتا جينوفا مسقط رأسه بميلانو لم يكن هنالك قوانين للنوم، كان ولداً متسكعاً مغرماً بالسهر والغناء، تدعوه والدته ماريا بالزوني بالكنارينو نسبة إلى طائر الليل المغرد، وكان قبل أن يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، أي قبل أن تدعو الهيئة العامة للجيش الإيطالي مواليد العام 1888 إلى التجنيد الإجباري، قد تخرج حديثاً من معهد الصحافة، ويواظب، منذ أن كان في الثانية عشر على دروس الأرغن في كاتدرائية القديس لورينزو، كما يشارك ثلاث مرات في الأسبوع في تمارين الكورال الديني. وقد حاول والده باتشي كومباريتي الذي هجر والدته منذ ستة أعوام ويعيش مع بائعة جبن تعيل طفلاً مصاباً بالتوحد، أن يتوسط له ليحصل على عمل بمحطة القطار التي يعمل بها كعامل مكابح، كانت هناك وظيفة شاغرة لشخص يمكنه القيام بتنظيف قنوات الحركة وإزالة السخام من غرفة الوقود، لكن حرص ساندرو على تقمص مظهر ارستقراطي مبتدَع جعله يزهد في تلك الوظيفة ويتركها منذ يومه الثاني، وبعد لأي استطاع الحصول على وظيفة عازف أرغن بالكاتدرائية، وبمرتب هزيل مقارنة بالمرتب الذي كان سيتقاضاه في محطة القطار. في بعض الأيام كان يعطي دروساً في الموسيقى لأبناء العائلات النبيلة، وسببت وسامته الريفية التي ورثها عن والدته الكثير من الصدمات مع سيدات المجتمع المخملي، فعندما حل للمرة الأولى في بيت السيدة باتريسيا الأرملة ذات الثلاثين ربيعاً، أمالت رأسها إلى الخلف حتى وقعت قبعتها، لكي تتمكن من تأمل قوامه الفارع، وشعره المسفوع بلفحة داكنة، وحين مدت يدها لمصافحته سقطت نظراتها على شاربه الأسود المجدول بعقفتين صغيرتين، وشفتيه المكتنزتين بامتلاء مثير، وربما تعمدت أن تطيل أمد المصافحة، أو نسيت أن تسحب يدها من يده، فانحنى بكياسة وطبع قبلة صغيرة على ظاهر كفها قبل أن يسحب يده بتهذيب متحامل، كانت باتريسيا التي تحرص مع والدة زوجها الراحل على حضور قداس الأحد بكاتدرائية القديس لورينزو، قد عرضت عليه أن يعلم ابنها ذا الأعوام السبعة، دروس الأرغن، ولم تكن تمانع حين يخرج عن الدرس المقرر فينتزع الكمان الأحمر المعلق على جدار غرفة الاستقبال ويعزف فالسات رومانسية تحلق بهما عالياً، وفي ذرىَ التحليق الممتع الحالم يجدان نفسيهما قد بلغا الطابق الثاني، حيث غرفة النوم. وفي يوم غابت فيه والدة الزوج عن البيت، فراوغت الأرملة الشابة الطفل ليبقى في غرفته، تاركة له رقائق البسكويت وقطعاً كبيرة من حلوى المارشميلو، ثم دلفت إلى غرفة الدرس بثوب أحمر طويل عاري الكتفين، وفي الوقت الذي اقتعد الشاب في مكانه على الكرسي الصغير المخصص للعزف، قفزت فوق صندوق البيانو ناثرة أطراف ثوبها على لوحه المصقول، في تلك اللحظة التي تصاعدت فيها سوناتا ناعمة ومتوددة على سلم دو الصغير، اقتحمت السيدة الكبيرة الخلوة دون سابق إنذار، وخزت بعصا المظلة التي كانت تحملها ياقة قميص الشاب وانهالت عليه ضرباً وهي تدفعه نحو الخارج ثم أقفلت الباب بعنف.


(1)* طرابلس أرض الحب الجميلة

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (5)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية: اليوم العالمي للكباب – 3

حسن أبوقباعة المجبري

ساعاتٌ بلا ساعاتٍ

جمعة الفاخري

اترك تعليق