السجين جاد الله
…في ذلك اليوم الغائم من شهر مارس من عام 2011، ومنذ ساعات الفجر الأولى، طغت أصوات الأقدام لتتعاظم فوق أرضية ساحة سجن الكويفية، الواقع على بُعد اثنين كيلومتراً فقط، من منطقة الصابري.
… السماء تُنبي بحدوث شيئا عظيماً، خارج أسوار مؤسسة الإصلاح والتأهيل تلك.
السجناء أغلبهم لا يدركون ما يجري خارج القضبان، فقد كانوا يتحركون بالإيعاز العسكري الروتيني، ذهاباً ومجيئاً، وبنظام مُحكم تحت أعين الحراسة المشددة والمستنفرة والحذرة، كان أفراد الشرطة ينفذون الأوامر البوليسية بحذر متضاعف، كانت أعين أفراد الشرطة تراقب كل شيء في أرجاء السجن العتيق، كان ذلك نتيجة إلمامهم بحجم الحدث الجسيم المُقبلة عليه البلاد تلك الأيام.
وبعد شوطا من التمارين الصباحية الروتينية للسجناء، تقدم العريف (سالم) وهو العريف المكلف، بإعطاء الأوامر والتعليمات في ذاك اليوم، فبدأ يقرأ بصوت عال ما جاء في ورقة التعليمات، أستمر في القراءة حتى وصل إلى قائمة تحوي أسماء السجناء، والذين تقرر الإفراج عنهم ذاك الأسبوع، بعد أن أنقضت فترة محكوميتهم.
كان من ضمن القائمة (جاد الله)، هلل جميع السجناء مباركين، فور سماعهم اسمه والإعلان عن انتهاء محكوميته.
كان كل زملائه من نزلاء سجن الكويفية يعلم أنه أقوي النصابين في مدينة بنغازي بل في ليبيا برمتها.
… سيخرج (جادالله) من السجن بعد قضاء فترة محكومتيه، بسبب ارتكابه لجريمة استيلاء علي حافلة نوع (فيتو) ، بعد أن أعطي تعليماته لعصابته بالقدوم إلي محطة المسافرين الواقعة قرب الفندق البلدي وسوق الخضروات، ليأتوا فرادة، فرادة في ساعات مختلفة،وليتجمعوا أمام مكتب السفريات ذاك،وكأنهم غرباء عن بعضهم البعض، وكل شخص تظاهر بأنه يرغب في السفر إلي مدينة (إجدابيا )،حيث استقلوا الحافلة، كلهم مقنعين السائق أنهم مجرد مسافرين، وفي الطريق أنقض (جادالله)، علي السائق ضربا ،فأغمي عليه،وسلبوه السيارة ،وهاتفه، وساعته، ونقوده، ورموا به على قارعة الطريق الواقع بين مدينة (قمينس) و(سلوق) و(سيدي عبد العاطي) مُعتقدين أنه قد فارق الحياة.
…أنتهي الجمع الصباحي للسجناء وعادوا جميعهم الي عنابرهم، فألتف عدد من النزلاء حول زميلهم (جاد الله) مُباركين مُهللين، وطلبوا منه بأن يقوم بتأدية بعض الخدمات لهم، بعد مغادرته قضبان السجن.
– (مراجع) باللهجة العامية:
رد بالك يا (دولة) تنسي الموضوع المتفقين عليه.
– جاد الله يرد بنفس اللهجة:
ممكن أتذكرني بيه؟
– امراجع:
الوسخ ابن الذين (مسعود) نبيك اطيح بوه في أي قضية، ولو حتى أقنعت أي وحدة
بالشكوى فيه، باش انزروه على تنازل بتنازل، ونطلع من القضية، الوسخ دكني في الحبس، وطار يحسابني ناسيه الحكية ولد الحكية.
… لم يرد (جاد الله) حول ما تفوه به النزيل، رغم أنه أنصت إليه باهتمام.
– تحدث (عثمان) السوداني متوجهاً بالحديث إلى (جادالله) كذلك:
عليك أمان الله يا (جادالله) ما تقطع زيارة، ودير بالك على حالك، وما نوصيك اتشوفلي الشاحنة تبعي مركونة لسه وا لا هلتوها كمان؟
– تمتم (جادالله):
حاضر يا (عثمان) أنت وياه …
… وأردف قائلاً:
حاضرين أعيوني ليكم، ثم أكمل متمتم كذلك، ومحدث نفسه بالمثل الشعبي (أمغير أطلق عمك بجرده)، ثم أنسل مبتعد عنهم، حيث أنزوي في ركن مظلم في العنبر (6) منتظرا قدوم موعد الإفراج الرسمي.
وبعد سويعات قليلة حدث شيئا لم يكن متوقع، فأدي إلى حدوث فوضى عارمة داخل عنابر السجن!!
فبعض القذائف تنطلق من على ظهور سيارات ذات دفع رباعي كانت متمركزة سراً قبالة السجن عند بحيرة (عين زيانة)، فتطال السجن ليعقبها هجوم مسلح على البوابة الرئيسية لمؤسسة الإصلاح والتأهيل.
… السجناء يفرون كالجرذان من جميع المنافذ، وفي لحظات، أصبح السجن خالي من جميع النزلاء، فيما عدا (جادالله)، وشخص أخر لم ينتبه إليه، فقد أختبئ في برميل كبير، كان يستخدم لجمع الماء، أنه العريف (سالم) الذي ألقى بالتعليمات والأوامر هذا الصباح.
لقد كان (السجين جادالله) حكيماً، فلقد قرر المكوث لبرهة، ليستوضح الأمر، فقد تكون خطواته نحو بوابة السجن المستهدفة، لها الأثر العكسي على قرار الإفراج الصادر، والذي تم الإعلان عنه في التمام الصباحي.
… تفرق السجناء في أزقة المناطق القريبة من سجن الكويفية بدء من منطقة (الكويفية) نفسها، فــ (بودزيرة) و(حي السلام) (وأرض أزواوة)، و(السلماني) و(سيدي يونس) و(الوحيشي) و(السرتيه) و(أرض شبنة) و(الصابري) و(سيدي خليفة)، ثم أختفوا داخل زحام المدينة العريقة بنغازي.
كان السجين (إمراجع) من بين السجناء الفارين، لكنه كان لا يعلم أن هناك بعض الملثمين المنتظرين بسيارات معتمة الزجاج، لحظة خروجهم، ويدققون في ملامح الفارين المذعورين، فأختلط عليهم الأمر، كونهم كانوا يتلقون المعلومات أولا بأول من جهة غير معلومة، وقد كانوا غير دقيقين حين قرروا أن السجين الهارب (عثمان) هو السجين (جاد الله)، خصوصا وأن (عثمان) كان يرتدي قميصا وفانيلة (جادالله) التي ظفر بها مع جهاز الهاتف يوم رهان لعبة الكوتشينة.
أجروا سريعا معه مكالمة هاتفية، فعسي هاتفه يرن أمامهم، وبالتالي رنين الهاتف سيؤكد لهم أنه، (جاد الله) المطلوب تصفيته.
بالفعل أجروا الاتصال، فتسمر (عثمان) أمامهم، مخرجا هاتفه، فقرروا رميه بالرصاص فورا، وأردوه قتيلا دون أن يتأكدوا من شخصيته ولاذوا بالفرار.
أما (امراجع) فقد كانت إحدى سيارات الدفع الرباعي، تنتظر خروجه، فقفز إليها لتعبر به الطريق مسرعة، إلي حيث مبني المحكمة العليا، وبقذيفة موجهة من قاذف الأر بي جي
مصوبة إلى الغرفة التي يوجد بها أرشيف المحكمة، لتحدث بها شرخا كبيرا ينسل إليه (امراجع) بسرعة قصوى، فيجلب منها مجموعة من ملفات القضايا لمتهمين محكومين بالإعدام.
وعند إحضار الملفات عادوا به إلى بوابة سجن الكويفية، وأنزلوه ثم أطلقوا عليه النار، فأردوه قتيلا.
ودون أن يعلم ( السجين جاد الله ) ما يحدث خارجا، أنتظر أن يخيم الظلام علي المكان ،ليقرر الخروج من السجن ،والتوجه مشيا علي الأقدام، كونه، لا يملك المال الذي يمكنه من أخذ أي وسيلة مواصلات، لتقله إلي شارع (جمال عبد الناصر) حيث مقر (إدارة البحث الجنائي) ، أو لـ (منطقة الهواري ) ،مقر (مديرية الأمن) ،ليقوم بتسليم نفسه لهم ، وليوضح لهم ،أنه ليس هاربا من السجن كبقية الفارين ، حيث أنه قد أعلن الإفراج عنه هذا الصباح، ولم يتسنى له اخذ صورة من قرار الإفراج حتي يستخدمه، كـدليل علي إنهائه لمحكومتيه ، مُعتقداً أن الأمور لازالت اعتيادية، أو كما هي منذ تاريخ دخوله إلي السجن قبل أربعة سنوات .
لكنه لم ينتبه لمن كان يتعقبه منذ تركه لبوابة السجن حينها، فقد لاحقه العريف (سالم) حين سلك طريقاً معبدا وسط (مقبرة سيدي عبيد) تاركا منطقة (أرض أزواوة) خلفه، و(بريد السلماني) عن شماله، و(محطة بنزين) تتراءى من منطقة (دكاكين حميد) أحد أحياء منطقة الصابري الشهيرة عن يمينه.
ومن بين عمارات السبخة، تسرب حتى محلات (نادي الهلال الرياض الثقافي الاجتماعي) متجاوزا سوق العرب.
في الطريق بدأ الأمر يتضح شيئا، فشئياً، وعند تجاوزه لضريح (عمر المختار) وأزقة (منطقة السكابلي)، تفاجأ بآثار لهدم النصب التذكاري لــ (جمال عبد الناصر)، وأبخرة دخان متصاعدة من براميل القمامة حيث تم حرق الكتب من مكتبة (مركز دراسات وأبحاث الكتاب الأخضر) الواقع في بداية شارع جمال عبد الناصر فيها!!
… أنحي بنفسه جانبا، فأكمل المسير، حتى لا يتورط معهم، فيجد نفسه قابعاً من جديد خلف القضبان بتهمة أمن قومي، وكانت وجهته كتيبة (الفضيل بوعمر) الواقعة في منطقة (الحميضة) هذه المرة.
فأصطدم بأن الطريق عند مبني (إدارة الضمان الاجتماعي) الواقع في منطقة (السيلس)، قد تم إقفاله وغلقه، وبالتالي يجب عليه أن يُكمل مسيره من طريق بديل وكان الاختيار الطريق المؤدي إلي نادي الفروسية ماراً من أمام مبني بيوت الشباب الواقع خلف ملعب (ثمانية وعشرين مارس) أو ما يعرف بـ (المدينة الرياضية).
وعند هذه النقطة تواري عن أعين (العريف سالم) الذي لم يتمكن من مواصلة تتبعه، دون علم (السجين جادالله)، والذي تسرب من ذاك الطريق، فأشتم رائحة بعض الأطعمة من أحد المطاعم الشهيرة هناك، تحسس جيوبه، تلك اللحظة، فلم يعثر على قرش حتى، فخطر بباله أن يتوجه إلى (البنكينة) الواقعة في منطقة (جليانة) مقابل (فندق أوزو).
أما (العريف سالم) وهو الشقيق الأكبر، ل (عادل)، فقد فضل تغيير مساره الي منطقة الصابري حيث يتواجد مقر سكناه عاقدا العزم على مواصله عمله بحسه الأمني مهما اختلفت الظروف.
خصوصا بعد أن أتاه هاتفا من أخيه (عادل)، يحثه على العودة.
– عادل:
الو تي وينك.. قالو سجن الكويفية تعرض لهجوم مسلح، والأخبار في التلفزيون جابية صور للخبر، الحمد لله اللي طيب نجوتك كبيرة.
– العريف سالم:
الحمد لله نجوتي كبيرة والله.
– عادل:
الحمد لله معناها فيسع روح هلك منشغلين عليك، بس اسمع تذكر (امراجع) اللي شاله خوه (مرعي) الدبش يومتها.
العريف سالم:
أية نذكره كنه.
عادل:
شفته؟
العريف سالم:
عطاك عمره القيتا امطوح ع الطريق مقتول.
عادل:
الله يرحمه، خوه (مرعي) ساكنلي باش نتصل بيك نتأكد من الموضوع هما كيف اللي سامعين شيء هكي.
العريف سالم:
اه مقتول شفته بعيوني، أنا أقريب نوصل كعابي الي الحوش.. أهو خشيت للصابري.
… وفي هذا الأثناء وبينما (جادلله) يسير، وصل إلى مسامعه تحذيراً، أرسله أحد الشباب المتحمسين لمجموعة من أصدقائه المبتعدين حيث قال لهم باللهجة الليبية الدراجة محذراً:
ردوا بالكم بكرة فيه مجموعة لابسة طاقيات لونهن أصفر وهراوات ناويين يشتبكوا معاكم.
– رد أحد الشباب المستمعين لتحذير زميلهم:
قبعات صفر من وين جونا هظوما؟
– أجاب صاحب التحذير باللهجة العامية الليبية كذلك:
الله أعلم بس نفس طاقيات عمال الصيانة اللي في جامعة قاريونس.
– رد نفس الشاب المستمع للتحذير:
لالا… لا أعتقد أن (جامعة قاريونس) حا أتشارك في قمعنا نحن المتظاهرين، عن طريق إرسال ودعم أصحاب القبعات الصفر … مستحيل !!…
… تراءت أخيراً بوابة البنكينة لـ (جادالله) ومن محاسن الصدف أنه، وجدها مُشرعة لأبوابها نتيجة موجه العنف والسرقات، فدخل وقرر أن يجهز بنفسه وجبة من بعض الأسماك الطازجة.
أكمل وجبته وأنسل إلى أحد مراكب الصيد، ونام نوما عميقاً متوسدا لحقيبة أموال، يبدو أنها لبعض الصيادين، دون أن يدري.
غط (جادالله) في نوم عميق أستمر به إلى مساء اليوم التالي، حينها أستيقظ وإذا به يستشعر أنه كان متوسدا لرزم كثيرة من ألاف الدنانير الليبية، فقرر أن يتوجه إلى أقرب، صالوناً للحلاقة، ومن ثمة يتسوق من متجر ملابس، بدلةً أنيقة، ولا ينسي أن يشتري هاتف خلوي، ثم يستقل سيارة تاكسي، فيستقر إلى حين، في أحد الفنادق القريبة من شاطئ البحر في المدينة.