النَّوْطَرَةُ: فِعْلٌ للتَّعالي ، إيجابًا أو سلبًا ، نقول عن تصرَّفاتِ بعضِ البشرِ التي تظهرُ إِمَّا تعاليًا وإِمَّا تظاهرًا وادَّعاءً أو رياءً ، إنَّ ذلك السلوك ( نوطرة ) ، وقد نضيف ( نوطرة زايدة ) ؛ أو نقول منكرينَ لفعلٍ استعراضيٍّ ما ( عَلَيكْ نَوْطرَة ) فحينَ يعمدُ الإنسانُ إلى إضافةِ أفعالٍ أو أقوالٍ بعينها بشكلٍ تصاعديٍّ ، لكأنَّهُ يصنعُ بتلك الأفاعيل ناطورًا ، يرتفعُ معَ كلِّ إضافةٍ تجري في السِّياقِ نفسِهِ .
وقد يحرصُ المرءُ على أن تكونَ كلُّ سلوكيَّاتِهِ محفوفةً بمبالغَةِ الاعتناءِ حدَّ الوسوسةِ ، مشوبَةً بالرِّياءِ المقيتِ ، وشدَّةِ الحرصِ على التَّميُّزِ والظُّهورِ ، حتَّى يخلعَ على نفسِهِ بألسنَتِنَا أَنَّهُ ( نوطار ) .. ذلك لأنَّ الإنسانَ بتصرُّفاتِهِ وأقوالِهِ وأفعالِهِ يجلبُ على نفسِهِ وبنفسِهِ ألقابًا يستحقُّهَا كما تستحقُّهُ غالبًا ..
والنَّوطرة فعلٌ غير محمودٍ إلبتَّة .. وقلَّ أن يكونَ عفويًّا أو مستساغًا ، وقد يكونُ فعلُ ( النوطرة ) فعلاً سلبيًّا ، يعمدُ فيه طرفٌ ما إلى مراكمةِ أشياءٍ بعينها تستفزُّ الآخرَ ، فيغدو الفعلُ عملاً عدوانيًّا مستفِزًّا يستدعي اتخاذَ مواقفَ دفاعيَّةٍ ، ردَّاتِ أفعالٍ ، تناظرُ مبادَرَاتِهِ ، تحرُّزًا ممَّا يصدرُ منه فيؤذيهم ..
والشاعر المرحوم إبراهيم طاهر بوجلاوي ، في إحدى غناويه الرائعةِ ، إن صحَّت نسبةُ الغنَّاوة إليهِ ، فهناك من نسبَها لحسن لقطع الشَّاعِرِ البارعِ المشتهرِ ، المتوفَّى سنة 1952:
اعزاز نوطروا للعين سيَّات ياك توعى لروحَّها .
اعزاز: أحباب.
النوطرة/ مراكمة الأمور بعضها فوق بعض ، والناطور ما يبرز عاليًا من خيالٍ أو غيره.
ياك : لعلَّ ..
توعى لروحها : تنتبه لنفسِها.
يقولُ الشَّاعِرُ الحكيمُ ، وقد أكثرَ أحبابُهُ منَ الأخطاءِ في حقِّهِ ، منبِّهًا ( العين ) عينِهِ لجسامَةِ هذهِ الأخطاءِ التي تكدَّسَتْ متكرِّرةً حتَّى غدَتْ جبلاً تراهُ كلُّ العيونِ عدا عينِ المحبِّ المفتعلِ السَّيَّاتِ ، المقترفِ الأخطاءِ ..
والعينُ الممعنةُ في غيِها ، لعلَّها تنتبِهُ لنفسِهَا فتزدجرُ ، وقد حفَّتها الأخطاءُ العمديَّةُ الجِسَامُ ، ممَّن تعلَّقَتْ بهم حبًّا ، وشُغِفَتْ بهم لهفًا ، لعلَّها تمسِكُ عنِ المضيِّ في محبِّتِهَا العميَاءِ ، فلا توغِلُ في هذا الحبِّ القاتلِ ؛ فالحبيبُ المفترضُ يبادلُ حبَّهَا بالمساوئ ، ويردُ على تلهُّفِها إليهِ بأخطاءَ قاتلةٍ تقتلُ الحبَّ ، وتلغي الودَّ ، وتفصُمُ عُرَى المحبَّةِ.
والشَّاعرُ يخاطبُ العينَ لا القلبَ ، لأنَّ العينَ في المأثورِ الشَّعبي جُعِلَتْ عرَّابًا للحبِّ ، واتِّخذَتْ مِثالاً للجنوحِ والانفلاتِ ، وعدَّت دليلاً على الرَّغبَةِ الجامحةِ، والشَّهوةِ المحرَّمةِ ، فهيَ أوَّلُ ما يعشقُ من حواسِّ الإنسانِ ، فهي رائدةُ الهوى ، وسببُ الوقوعِ في الحبِّ ، فالنَّظرُ رسولُ العشقِ ، لذا يحمِّلُها العاشقونَ أوزارَ سقوطِهم في مهاوي الهوى ، ويتِّهمونها بقيادتِهِم إلى جحيماتِ الحبِّ ، وجَرِّهِم إلى سعيرِ عذاباتِهِ.
الغنَّاوةُ النَّفيسةُ جدًّا بمضمونِها ، هي حكمةٌ معنويَّةٌ ، لا تؤخذُ على ما يظهرُ من ألفاظِها ، ولا تفسَّرُ بظاهرِ القَولِ ، وواضحِ المعنى ، وإنما تحتاجُ لغوَّاصِّ معانٍ مدرَّبٍ يمكنُهُ أن يستخرجَ من أعماقِها مضامينَ خفيَّةً أكثرَ إدهاشًا ، وأروعَ تفسيرًا ، وأشسعَ خيالاً ..
والغنَّاوة النَّفسيَّةُ النَّفيسَةُ تصلحُ لتكونَ استشهادًا حكيمًا بينَ عاشقينِ متخاصمينِ ، أو صديقينِ متجافيينِ ، وما في حكمِهِم أفرادًا أو جماعاتٍ .. فهي حمَّالةُ أوجهٍ ، وهذهِ المزيَّة تنطبقُ على كلِّ ( غناوي العلم ) تقريبًا .
* ضمن سلسلة قراءات في غناوة العلم .