غناوة العلم
تراث

اعزاز ياسِّم في هذي .. !؟

غناوة علم

غنَّاوةُ العَلَمِ هيَ أكثرُ الفنونِ الشِّعريَّةِ حِظًّا من َالتَّطوُّرِ على مستويي الشَّكلِ والمضمونِ ، ربما لأنَّ الشَّاعِرَ ( الغنَّاي ) يشحَذُ ملكتَهُ الشِّعريَّةَ على الدَّوَامِ ، وبشكلٍ متكرِّرٍ يوميًّا ، فهو يدرِّبُ مخيِّلَتَهُ الشَّعريَّةَ وهو يُلاهي نفسَهُ ، ويُسَاهِي قَلْبَهُ ، وهو يصبِّرُهُمَا ، وهو يُسَامرُ الآخرينَ ، وهو يجوبُ الصَّحَارَى الموحشةَ المنفسحَةَ بلا حدودٍ ، والأصلابَ المقفرَةَ العسرَةَ الممتدَّةَ بلا نهاياتٍ ، وهو يتذكَّرُ أَحِبَّتَهُ وغائبيهِ ، فالغنَّاوةُ ملجَأٌ ومتنفَّسٌ ورسائلُ قصيرةٌ مكثَّفَةٌ منجزةٌ ، ومؤنسٌ في الوحْشَةِ ، طاردةٌ للضَّجَرِ المقيتِ ، شافيةٌ للوجَعِ ، مهدِّئةٌ للحنينِ القَاتِلِ ، زاجرَةٌ نُعَاسًا خَبِيثًا يظلُّ يترَّصَدُهُ لِيُسْلِمَ للذِّئابِ المتربِّصَةِ قطيعَهُ الحبيبَ ؛ فإذَا مَا رَفَعَ عقيرتَهُ بالغِنَاءَ طَرَدَ النَّومَ المتآمِرَ ، والقلَقَ الشَّنيعَ ، والأشباحَ المخيفَةَ ، والوحوشَ المفترِسَةَ ، فلقد كانَ الغناءُ سلاحًا أيضًا ، وفي هذا يقولُ الشَّاعِرُ الكبيرُ المرحومُ إبراهيمُ طاهر بوجلاوي:

وإن قال يا بعيد الدَّار للغلاَّشة نومها يْطير ونوم من توعاله..

طارَ النَّومُ ، وسلمَ القطيعُ وصَاحِبُهُ ، وأبلغَ رسالتَهُ الملغَّمَةَ بالعشقِ والأشواقِ والحنينِ إلى محبوبتِهِ ليطَرُدَ بغنائِهِ نومَهَا أيضًا ، ذلكَ النَّومَ الثَّقيلَ الذي يَسْرُقُهَا منهُ ، ويبْلِغُهَا عَنْهُ رِسَالةَ مُحِبٍّ مُزنَّرَةٍ بالوجدِ واللُّوعَةِ والتِّحَنَانِ..

غنَّاوةُ العَلَمِ منتجٌ أدبيٌّ ليبيُّ بامتيازٍ ، هِيَ جملَةٌ شعريَّةٌ قصيرَةٌ مقتضَبَةٌ ، شديدَةُ التَّكثيفِ ، مشحونَةٌ بالمشَاعِرِ والأَحَاسيسِ .. شديدَةُ التَّأثيرِ ، هي أشبهُ بقنبلَةٍ صغيرةٍ شديدةٍ الانفجارِ .. صغيرةِ الحجمِ ، لكنَّها واسِعَةُ التفاصيلِ .. تنطبق عليها القاعدة البلاغيَّة التي تتبنَّى ” إجاعة اللفظ وإشباع المعنى ..”

الغنَّاوة كفنٍّ لفظيٍّ مختزلٍ تنبذُ التَّبذيرَ اللُّغَوِيَّ ، وترفضُ الإسرَاَفَ التعبيرِيَّ ، وتَمْقُتُ التَّرَهُّلَ اللَّفْظِيَّ .. تتكئُ على الاختصارِ المنجزِ ، والاختزالِ المُبينِ مَعَ إبرازِ المَقَاصِدِ بأقلِّ العبارَاتِ ، فقد لا تتجاوزُ الغنَّاوة خمسَ كلماتٍ ، وإن طالت فتسعَ كلماتٍ.

****

اليأسُ عدوٌّ غشومٌ يُدَاهِمُ بقساوتِهِ أحلامَ العاشقينَ فيذرُوها في بيداءِ الضَّيَاعِ ، وينثرُهَا وإيَّاهُم في فيافي التِّيهِ واللاجدوى ، يعبَثُ بأمنياتِهِم العذَارَى البريئاتِ ، ويسخرُ من آمالِهم الأبكارِ ، تَأَكَّدَ الشَّاعِرُ ( الغنَّاي ) في الغنَّاوةِ التَّالِيَةِ منَ القبضِ على اليأسِ نفسِهِ بيدِهِ اليمنى ، وهذا القبضُ فعلٌ سلبيٌّ ؛ إذ أضحى أمرُ ضياعِ أحبِّتِه واقعًا محتومًا ، على الرُّغمِ من حتميِّةِ اليَأسِ من كُلِّ محاولاتِهِ للوصولِ لأحبابِهِ ، لكنَّ أحلامَهُ لم تَمُتْ ، إذ لا يزالُ يركضُ جادًّا خلفَ ( رحيلَ ) أَحِبَّتِهِ ، مُتَوَسِّلاً عودَتَهُم بإشارتِهِ الملحَاحَةِ لهم بيدِهِ اليسرى.

اعزاز ياسِّم في هذي وراهم ونومي بليسرى

اعزاز: الأحباب.

ياسِّم: اليأس منهم.

في هذي: إشارةٌ إلى يدِهِ اليمنى.

وراهم ، وراءهم.

ونومي بليسرى : ألوِّحُ لهم باليدِ اليسرى.

هذهِ الغنَّاوةُ مكتظَّةٌ بحمولاتٍ كبيرةٍ من يأسِ الشَّاعِرِ من أحبَّتِهِ الذينَ فرَّقهم اليَأسُ بعيدًا عنهُ ، تبدو للوهلَةِ الأولى بسيطةً ساذجةً ، وليست ذاتَ قيمةٍ كبيرةٍ ، لكن دعونا نتسرَّبُ إلى دواخلِها لنكتشفَهَا ، لنسبرَ أعماقَها ، فالشَّاعِرُ يُصَرِّحُ بيأسِهِ الحتميِّ المؤكَّدِ من عودةِ أحبَّتِهِ ، والتَّوَاصلِ معهم ، وهذا يعني انطواءَ صفحةِ العشقِ ، وانتهاءَ لحظاتِ الفرحِ والبهجةِ بالقربِ منهم ، ويقينُ الشَّاعِرِ المحفوفُ باليأسِ أوجبته أسبابٌ أحجمَ عن ذكرِها ، فلم يحمِّلْهَا مِتنَ الغنَّاوةِ العَاجِّ بتَّفاصِيلَ كثيرةٍ ، وإن بدت الغنَّاوة محدودةَ الكلماتِ ، هي تلكَ الأسبابُ المُسَاقةُ من ( يأسِهِ ) الجبَّارِ الشَّنيعِ باعثِ هذا الأسى ، وعرَّابِ هذا الفراقِ المقيتِ ، فهو من أثَّثَ وجدانَ الشَّاعِرِ بهذهِ المساحةِ السَّوداءِ القاتمةِ منَ القنوطِ والانكسارِ ..!

يقرُّ الشَّاعِرُ بالهزيمةِ ، هزيمتِهِ أمامَ سطوةِ اليأسِ العاتيةِ ، وهزيمة ( الحُبِّ ) في مواجهةِ هذا الجَبَرُوتِ المُسَلَّطِ على قلوبِ العشَّاقِ يعبثُ فيها تشتيتًا وتفريقًا ، ويرصُّها أحزانًا وبؤسًا ويأسًا.

يأسُ الشَّاعِرِ من أحبَّتِهِ مضمونٌ مؤكَّدٌ باعترافِ الشَّاعِرِ نفسِهِ: (اعزاز ياسِّم في هذي ) فقد قبضَ بيمناهُ على دليلٍ صادمٍ يؤكِّدُ هذا الفاجعةَ ، ومع كلِّ هذهِ التَّفاصيلِ الزَّاخرةِ بالقنوطِ والهزيمةِ والانكسارِ ، ثمَّة ركنٌ واحدٌ لم يسقطْ ، لم تستطعْ جحافلُ اليأسِ الغشومِ اكتساحَهُ ، ألا وهو ركنُ ( الرَّجاء ) ؛ فالشَّاعِرُ لا يزالُ يَتْبَعُ أَحِبَّتَهُ ، يتعقَّبُ أثرَهم ، أثرَ رحيلِهم المغادِرِ .. راجيًا ، آملاً ، مُلوِّحًا لهم ، طالبًا منهم التَّأنِّي ، والرُّجوعَ إليهِ ، للحُبِّ ، وللعهدِ وللوئامِ والأحلامِ ..

هل هذا كلُّ ما يمكنُ أن نكتشَفَهُ جرَّاءَ توغُّلِنا في أعماقِ النَّصِ ..!؟

لا ، فثمَّةَ خفايا أخرى أكثرُ إدهاشًا ، فالشَّاعِرُ العفويُّ استعملَ حواسَّ كثيرةً خلالَ تصدِّيِهِ لليأسِ المغيرِ ، ومحاولةِ استرجاعِ أحبابِهِ المفارقينَ ، المغادرينَ ، ( في هذي ) و ( ليسرى ) استعملَ يديه الثنتينِ ، وهو يتبعهم ، ( وراهم ) اعتمدَ على رجليهِ الثنتينِ أيضًا.

كما استعملَ أفعالاً مضمرةً لم يذكرْهَا ، فهو قد ( يئسَ ) منهم ، بقوله ( في هذي ) لكنه يرجو رجوعَهم ( وراهم ) فهو يمشي أو يسيرُ أو يركضُ وراءَهم ، كما أَنَّه كانَ ( يراقبُ ) موكبَهُمُ المُغَادِرَ بناظريهِ ، فهو ( يرى ) ثمَّ ( يومئ ) لهم لأنَّهُ يُبْصِرُهُم بعينِيهِ ، وربَّما ( ناداهم ) بِصَوتِهِ وهو يركضُ خلفَهُم .

بربِّكُم هل درسَ بوجلاوي بلاغَةَ الإضمارِ ..؟ هل سمعَ بها أصلاً ..!؟

أرأيتم هذهِ المقدرةَ العجيبَةَ .؟ إنَّهَا مقدرَةٌ عفويَّةٌ لم يتلقَّهَا الشَّاعِرُ عبرَ مناهجَ أكاديميَّةٍ ، ولم تُمْلَ عليهِ ، لكِنَّهَا فِطْرَةُ العَرِبيِّ البدويِّ القَادِرَةُ على نتاجِ هذهِ البلاغةِ المدهشةِ ، وهذا البيانِ المعجزِ.

مقالات ذات علاقة

ضيـقة الخـاطر

المشرف العام

بياعين

حسن أبوقباعة المجبري

الأملاح

المشرف العام

اترك تعليق