وقف عند مصيف (سندباد)، يشاهد الأمواج الزرقاء وهي ترتطم برفق على الرمال الذهبية الناعمة، والشاطئ مكتظ بالشمسيات الزرقاء، والحمراء، والكراسي مبعثرة، ورائحة الشواء تعبق في المكان، أصوات الكاسيت تصدح بالأغاني المغربية، الشباب يرقصون عليها، الأطفال يركضون ويلعبون في مرح، عندما التفت لليمين عكر صفوه منظر الشاليهات المتهرئة التي يرجع تاريخ بنائها إلي الحرب العالمية الثانية، غرف صغيرة مرصوصة بجانب بعضها البعض، آيلة للسقوط، تنخرها الرطوبة، وتحاول الدولة الضحك على المواطنين كل سنة في شهر سبتمبر تقوم بطلائهن باللون الأبيض حتى أصبح الطلاء أسمك من الجدران.
بدأت أصابعه تحثه على كتابة مقال بخصوص مصيف سندباد ولكن تذكر ما حدث معه في الأمن الداخلي، فحدث نفسه قائلا: أصابعي تتألم تتوسل تبكي شوقا للقلم، تود احتضانه بين السبابة والإبهام، تتمنى عناق حبها الأزلي وتقبيل الورق بنهم، خاطبتها لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ القراءة الآن من الموبقات، نعم من الموبقات يحكم على الفاعل بالهرطقات أو الإعدام أو السجن، نظرت إليها وحدثتها رجاء أن الهموم تراكمت في قلبي باتت كالجبل. آسف جدا أصابعي !! كل ما يقال حقيقة نعم كسرت ودفنت القلم. هل أنا قاس!! نعم كنت قاسيا وحدي من دفعت الثمن !! لماذا الانتحاب فقد دفنت مع الذكريات نفسي وحلمي والقلم…
نظر إلي أصابعه وابتسم وواصل سيره إلي برج الفاتح ووقف أمامه، وألقى نظرة على ذات العماد وضحك قالا: فعلا ليبيا حالها كحال هذه العمارات الخمس، مقلوبة رأسا على عقب.
لفت انتباهه لافتات مكتوب عليها ليبيا الغد، والأشخاص المنخرطين في المشروع، عرف منهم بعض الأسماء، جلس في الساحة الخضراء، بالقرب من شجرة نخيل، مع حلول الساعات الأولى من العتمة، يفكر كيف استطاع الدكتور جمع كل هذه الأطياف السياسية حوله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؟ هل الكل مقتنع بأفكاره!! وماذا يحمل هذا الدكتور في جعبته من أفكار!! حتى اصطف الجميع في صفه!! أم إنه جمعتهم المصلحة!! هم يأمنون بطش النظام، والدكتور كسب المعارضة أمام العالم، هل يكون هو القائد المنتظر؟ السؤال المهم هل ينطوي هو أيضا تحت عباءة النظام، ويساهم في إصلاح ما يمكن إصلاحه؟ قد يكون الولد أفضل من أبيه، طلب مكياطة (قهوة سريعة التحضير)، وقلّب الفكرة من جميع جوانبها، التردد واضح على محياه، وقف ثم مشى قليلا ودار حول النافورة، وقرر التمدد على النجيلة الخضراء، قال معاتبا نفسه: هل أرضخ للظلم؟ هل أتنازل عن القيم التي دافعت عنها كثيرا؟ إذا كان التنازل بهذه السهولة لماذا تحملت الإهانة وغياهب السجون؟ لماذا لم تسلم من أول صفعة تلقيتها على خدك؟
أسئلة كثيرة يبحث لها عن أجوبة، رجع للبيت مع منتصف الليل، استلقى على السرير، حاول النوم لكن كل تلك الأفكار والأسئلة حالت دون نومه، قام من سريره ووضع المنشف على كتفه، دخل الحمام، ثم خرج يمسح رأسه، يشعر بالجوع، فتح باب الثلاجة، وجدها خاوية تماما إلا من علبة حليب وطرف بريوش، ابتسم وأشعل الغاز، وضع عليه أبريق الشاي، وذهب يشغل التلفاز يسليه حتى يطبخ الشاي، وضع على القناة الليبية الفضائية، تفاجأ بإعلان يقول: انتظرونا الأسبوع القادم مع الحلقة الأولى من برنامج الصحافة، للصحافي الكبير (محمود قنديل).
حك رأسه وقال مخاطبا نفسه: هذا القلم العربي الكبير يعمل في قناة ليبية، هل أنا أحلم أم أن ليبيا داخلة في عهد جديد!! حقا: هذا الرجل لا يخشى في قول الحق لومة لائم.
استيقظ مع الساعة السابعة كعادته، سخن أبريق الشاي، شرب كوب حليب بالشاي، ولم يجد شيئا يقضمه، فتح نوافذ البيت محاولا ترتيبه من جديد، لكن سرعان ما شعر بالضجر، أشعل سيجارة أخرج رأسه من الشباك يتفرج على الناس وهم يمشون للعمل، قال لنفسه: لا عمل ولا فطور ولا قهوة!! أفضل شيء أحلق وجهي وأرتدي ملابسي، وأذهب لشراب فنجان قهوة في المقهى، ومن ثم أبحث عن عمل جديد، جال على كل الصحف والمجلات، ودور النشر، الكل قابله بالرفض؛ خوفا من سطوة رجال الأمن، خطر على باله صديقه (مفتاح سعيد)، مصور في مجلة الشباب، وهو أيضا ضمن مجموعة ليبيا الغد، ربما يشرح ما غاب عني في هذا المشروع وقد يتوسط لي في العمل بهذا المشروع، لكن الطريقة التي استقبله بها (مفتاح سعيد)، لا تبشر بالخير، خاطبه بتعالي قائلا: إن معالي الدكتور لا يحتاج رجال علاقتهم بالنظام سيئة، وأنت على ما أعتقد ومط شفتيه وهز رأسه لا يفوت شهر إلا وتدخل السجن مرة أو مرتين!! ابتسم (قاسم)، واضح، نعم، واضح، وقال في ذهنه: هكذا هم الليبيون؛ من يتقلد منصب حتى لو غفير يعتقد أنه حاز الكون كله وأصبح الآمر الناهي، جال على كل الأصدقاء وكأن جوابهم نفس جواب (مفتاح سعيد)، إلا صديقه (رامز)، فرح بقدومه ووعده أن يوجه له دعوة قريبا في اجتماع ينوي الدكتور انعقاده وهناك يسمع منه مباشرة، وتقرر هل تلتحق به أقصد بالمشروع، أو تنصرف إلى حال سبيلك دون الوقوع في إحراج، وافق (قاسم)، وشكر (رامز) كثيرا على الاستقبال المميز وعلى وقوفه جانبه وقتما تخلى عنه الجميع …