كلما حاولت الكتابة عنه، أقع أسير إحساس بأنني قد لا أوفيه حقه، حقه عليّ كصديق عزيز، وحقه على الوسط الأدبي والثقافي عموما، باعتباره أحد فرسانه، ومبدعيه الذين تميزوا بثراء وجدية العطاء، صريحا لا يجامل حين يتعلق الأمر بالتعامل مع النص أيا كان صاحبه، جريئا كان إلى درجة خوفنا عليه، مهمته التي كرس لها قلمه وفكره هي أن يقول ويكتب ما يجب أن يقال ويكتب، معياره الجودة والتمكن من العطاء، ولأمساك بناصية اللغة، والانتماء لهذا الوطن الذي افتتن به، وتغنى به وصار البصمة الثابتة في كل أعماله الإبداعية، سكنت ليبيا روحه وسكنها، عشقها حتى أصبح هذا العشق مأخذا عليه من بعض أبناء وسطه الذين رأوا في ذلك نوعا من التعصب والشعبوية، هو لا يخفي هذا التعصب الذي يحسه حبا وهياما بهذه البلاد، أذكر لقاءه في منتصف الثمانينيات وسألني حينها: متى سنرى مجموعتك القصصية؟ أجبت أفكر أن أصدرها في دمشق حيث كنت مقيما هناك كمراسل لوكالة الأنباء الليبية، وكأنني بهذا استفزيته، فرد على الفور: لا، مجموعتك يجب أن تصدر في ليبيا.. وظل يلاحقني بالسؤال عن المجموعة، كلما التقينا، إلى أن سلمت إليه مخطوطها المعنون «حالة مشاهدة» عندما كان يتولى إدارة الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، والمفارقة كانت هي تعثر صدورها لأكثر من 10 سنوات بسبب انتقال شركة النشر إلى مصراتة ثم إلى سرت، وما صاحب ذلك من فوضى، حتى انني اعتبرت أن المجموعة فقدت، لكن الصديق سالم الأوجلي أبلغني وكان يعمل بالشركة بأنه عثر على مجموعتي وسعى من جانبه إلى إعدادها للنشر، وصدرت يوم وفاة المرحوم سليمان آخر هو «العابر»! ..
في السيرة المهنية، لم أر أحدا من الأصدقاء والزملاء في الوسط الثقافي بجدية المرحوم سليمان كشلاف حين يكلف بعمل ما، وهو ما يعرفه كل من تعامل معه في هذا السياق، أذكر هنا أيضا حين كان يشرف على مجلة «لا» طلب مني كتابة مقال للمجلة، وكنت وقتها أعمل بوكالة الأنباء، اتصل بي مرارا عن طريق الهاتف، وكنت أسوّف الأمر في كل مرة لانشغالي وكسلي أيضا، إلى أن فوجئت به يزورني في مقر الوكالة ويسألني عن المقال، صارحته بأنني لم أكتب شيئا، ففوجئت به مرة أخرى يقول لي: لن أخرج من مكتبك قبل أن تنجز المقال، وبالفعل ظل بجواري يدخن ويرتشف قهوته، حتى انتهيت من كتابة المقال، وكان معنونا «التقدم إلى الخلف»، استلم المقال ونظر إليّ مبتسما وغادر.. في يناير العام 1992 ونحن بصدد إصدار جريدة الصحافة، حاولنا أن نتخذ من مقر وكالة الأنباء مكان لإعداد العدد الأول، إذ لم يكن هناك مقرا لها، لكننا لم منمكن من ذلك، فبادر سليمان كشلاف بدعوتنا إلى مقر مكتبه بالطابق السفلي (القبو) أو الـ(ريفوتجو) كما كنا نطلق عليه، في «أمانة الإعلام» وهناك بالضبط أنجزنا العدد الأول من «الصحافة»، وكان من الأسماء الرئيسة التي ساهمت في ولادة العدد.
تعددت كتابات المرحوم سليمان كشلاف النقدية لتتعاطى مع القصة والرواية والسينما والمسرح والدراما التلفزيونية، وتميزت بالجدية وتحاشي ردات الفعل الانفعالية، وتجنب الرأي الانطباعي المجرّد، وانعكس هذا حتى في أرائه النقدية الشفهية، إن في المناسبات العامة، أو في الجلسات الخاصة، حتى أن بعض الأصدقاء يعتبرونه مبالغا في جديته، لكنه في الوقت نفسه كان شخصية يغلب عليها الهدوؤ، وميّالا للطرافة والتفاعل مع (النكتة) في لمات الأصدقاء.. كلما عدت إلى طرابلس من السفر أحرص على لقائه، إن في مقر عمله، أو في بيته، وفي «مربوعته» الضيقة مساحة الموغلة في التواضع، الواسعة الرحبة بأصدقائه.. مرت سنوات لم فترة طويلة لم نلتق خلالها، حتى سمعت بمرضه، ولم أهنأ إلا عندما اتصلت به وكان نزيل إحدى المصحات الأردنية، سألته عن صحته وحاله، فأجابني بصوت متعب، الحمد لله، حال المرض، وحاول أن يشعرني بأنه ليس يائسا .. حزنت كثيرا لأنني لم أألف هذه النبرة من سليمان، ثم حزنت أكثر لفقدانه، وفقدان ليبيا لأحد فرسان ثقافتها وحياتها الأدبية..