قصة

كان ياما كان

من أعمال التشكيلية مريم عيسى بازينة
من أعمال التشكيلية مريم عيسى بازينة


كنت دائما انتظر ليلة الجمعة من كل اسبوع؛ فهي بالنسبة لي تحمل الكثير من البهجة والألفة فقد كان لي موعد للذهاب إلى بيت جدتي (زهرة) والدة أبي والاستمتاع بالنوم في (سدتها العالية) المصنوعة من الخشب ودرجاتها الأربع التي  توصلك الى السرير الواسع المسيج بأعمدة تصل حتى نهاية الحائط، وقد تزين بشراشف بيضاء موشاة بورود حمراء وصفراء وتفوح من الوسائد الكثيرة التي تزين المكان رائحة المسك والعنبر. توجد تحت السدة غرفة لها باب صغير وقفل ذهبي صغير قد علاه بعض الصدأ، كان للباب لون أزرق له حواف أقل زرقة، وقد رتبت داخل  الغرفة الكثير من الأشياء والزجاجات الملونة وتفوح منها رائحة الزهر والحبق والأكليل والحنة .

كنا عندما نصل إلى هناك ندخل إلى غرفة جدتي ونضع أشياءنا على السرير إستعداداً ليلة جميلة برفقة حكاياتها التى لا نمّل منها .

هذه الليلة بعد أن أكملت صلاتها وصعدت درجات السدة ونحن نسمع صوت صرير الخشب مع خطواتها الواهنة وقد وجدتنا أنا وأخواتي قد تعلقت عيوننا بها ننتظر حضورها، ابتسمت وهي تقول لنا؛ الليلة سأحكي لكن قصتي، انتابنا الفضول فهذه أول مرة تحكي لنا عن شيء من الواقع بعيداً عن خيال طفولتنا، ربما لأنها أدركت أننا بدأنا نعبر إلى عالم آخر مع مرور هذه الأعوام التي تركت آثارها على أجسادنا وعقولنا، رأت اللهفة على وجوهنا وقد وضعت ابتسامة على شفتيها زادت من تجاعيد وجهها البشوش الناصع البياض ….

كان يبدو على صوتها التوتر وهي تبدأ قصتها وتقول لنا:

عندما تزوجت جدّكن رحمه الله، كنت صغيرة لم أتجاوز الثالثة عشر، وكان يكبرني بكثير، ففي ذلك الوقت كانت البنت متى برزا نهداها قليلاً  يقوم أهلها بتزويجها لمن يطرق الباب أولاً، ثم تنهدت ونظرت إلينا ونحن نسترق النظر إلى صدورنا وغرقنا جميعنا في الضحك، عدنا لهدوئنا بعد شعورنا بالخجل واسترسلت قائلة: بعد عامين وضعت أولى بناتي وبعدها بعام أخر وضعت الثانية، وبعد هاتين البنتين تأخر حملي وبان الملل والخيبة على وجهه، فأنا لم أمنحه الولد الذي يحمل اسمه ويرثه كما يقولون، هجرنا جدّكن وكثر غيابه عن البيت حتى سمعت إنه سيتزوج ولم يخبرني بذلك حتى أتى بها لتسكن معنا، لم يكن لي أن اقول أو أفعل شيئاً سوى أن أبارك لهما …

في يوم كانت جارتي في زيارتي وقد شعرت بحرقتي، فأخبرتني أن هناك عرّافاً قد خبرته من قبل وله خبرة قد يستطيع ان يخلصني منها، وأحضرت لي التمائم والبخور ولم يمض شهر حتى طلق جدكن زوجته الثانية فرحت كثيراً بذلك وظننت أن للبخور سحراً رغم استهجاني للأمر، لكنه لم يعد لحضني ولم يمضي أسبوع حتى تزوج الثالثة، بكيت كثيراً وشعرت بالضعف وهممت أن أبعث لجارتي مرة أخري ولكني عدلت عن الأمر وضفرت أوجاعي واستسلمت لقدري.

ومع الوقت وجدتها ودودة طيبة وجميلة وقد أحبت بناتي تشاركهن اللعب والضحك وعلى الرغم من ابتعاد جدكن عني وعن بناته حتى انه نسى أمرنا ولم يعد يشاركنا لا المكان ولا الطعام، إلا انني بدأت أعتاد على ذلك ومضى الوقت وأصبحَت حاملًا وزاد هيام جدكن بها وزاد هجرانه لنا.

بدا حزن شديد على محياها وهي تسترسل…

ذلك العام جاءنا الوباء وانتشرت الحصبة وحصدت أرواح الكثيرين وكان لبناتي موعد مع الموت وغادرتا الحياة واحدة تلو الأخرى لم يكن بينهن سوى سبعة أيام فقط، مرضت من شدة الحزن ولم أعد أستطيع ترك فراشي وخيم الحزن على بيتنا وشعر جدكن بالندم وحاول أن يواسيني بهذا الشعور ويطلب المغفرة ولكن حزني كان قد تكاثر ولم أعد أشعر بشيء..

لم تتركني فاطمة وهذا كان اسمها فطوال مرضي لازمتني وشاركتني حزني وهي في شهورها الاخيرة من الحمل، تضع الكمادات على رأسي وتطعمني بيدها وتقرأ لي القرآن لأتغلب على وجعي، قالت لي يوماً وهي تحاول أن تواسيني:

إنها حلمت بأنها انجبت ولدين وضحكت وهي تقول لي ساعطيك واحداً ،

بعد شهر أنجبت فاطمة تؤاما، ولدين وقد تعسرت ولادتها ونزفت كثيراً حتى أن القابلة قالت لنا أن نذهب بها إلى المستشفى ولكنها فارقت الحياة سريعاً حتى أنها لم تر ابنيها. عندما اخذتهم في حضني تذكرت حلمها وانها ستقاسمني فرحتها لكنها وهبتها لي كلها وغادرت.

بدت عينا جدتي مثل الزجاج وقد امتلأت بالدموع.

الآن فقط عرفت من هي فاطمة الذي كان أبي يذهب كل يوم جمعة الى المقبرة برفقة جدتي ليقرأ لها الفاتحة.

مقالات ذات علاقة

وصايا

محمد الزنتاني

الزعيم

سالم أبوظهير

حكاية عبد الرحمن

إبراهيم بن عثمونة

اترك تعليق