في ذكرى أربعين الشاعر الراحل إدريس بن الطيب
”يموت المرء حين يموت
لا يخلف من نزيف الروح شيئا
يتكئ بين الرياح ويستقيم له التوحد
غير أن المرء لا يموت
قبل نهاية الأشياء!“
إدريس ابن الطيب
نص من ذاكرتي، لم أجد مصدره في مكتبتي للأسف، ربما يكون أطول قليلاً، لا أتذكره كله، والكتاب مجموعة شعرية، لإبن الطيب، أتذكر أنها موسومة بـ (كوة للتنفس) مترجم إلى الإيطالية، حكيت مع الشاعر ذات مرة بصدده.
قابلت ابن الطيب في روما عام 1999، وكان يشغل مستشاراً ثقافياً في المكتب الشعبي الليبي حينها، (السفارة الليبية) قبل انتقاله إلى الهند؛ وإدريس الطيب شاعر تتلمس في نصوصه الكثير من الأسئلة الفلسفية، والتيمات العميقة التي تطرح معانيها المضمرة، بشكل باطني لا تكاد فيها المعاني تتبلور إلى الوضوح، حتى ترتكس إلى حالتها الغامضة المشبعة بالألم، ينهيها أحياناً باتكاءات صوفية، أو لنقل اتكاءات تجنح إلى العلوم القلبية أكثر منها إلى العلوم العقلانية، ويلاحظ بوضوح أيضاً رهافة المعاني وإن كانت مشحونة بثقل مغازيها، يشذبها ابن الطيب بلمساته التي تنبئ عن قراءات عميقة في شتى حقول العلم، حتى لنراه رغم ثقل الشحن والشجن في كلماته، يدربها على الطيران بهدوء، قبل الإنطلاق، لتصعد شيئاً فشيئاً، إلى أن تعانق الغيم، كما في هذا النص السالف الذكر، والذي كما أشرت قمت باجتراره من ذاكرتي، لأنه يذكرني بموقف ذي بهرجة قزحية خاصة، ونشوة مرحة في رحاب شعر مختلف بأمانة، رغم حزنه وثقله المتصوف.
أتذكر أنني كنت في بيروجيا، أتلمس طريقي صعوداً إلى مركز المدينة، فتوقفت عند باب مكتبة قديمة جميلة المدخل، في البياتسا فورتي براتشو، أو الأذرع القوية، ثمة مكتبتين، واحدة بمحاذاة الجامعة، ويملكها مثقف فلسطيني، منذ ستينيات القرن الماضي، متزوج بسيدة إيطالية، يتحدث الإيطالية أجمل بكثير من أهلها، كان قد ساعدنا في شؤون كثيرة تخص الإقامة والدراسة، وحلول بعض التمرينات في اللغة حين يسعفه الوقت، وثمة مكتبة أخرى، في نهاية الشارع الموازي، قبل الوصول إلى بياتسا إيطاليا بقليل على اليسار، إنطلاقاً من مدخل الجامعة، نسيت اسمها للأسف، يملكها أحد الطليان المبتسمين باستمرار، والمهذبين جداً، والفرحين بالزبائن الأجانب.
وقفت أقلب الكتب، فإذا بي ألمح Oblò per respirare أو كوة للتنفس، لعل ترجمتها هكذا، وهو ديوان الشاعر إدريس ابن الطيب كما أشرت، والذي تمت ترجمته بشكل عال المذاق، إلى اللغة الإيطالية، وبطريقة طباعة النصوص الأصلية بلغتها الأم، ثم توضع الترجمة أمامها مباشرة، وقد أفادني الديوان جداً، أفادني وعزز ثقتي، في كوني وجدت شاعراً ليبياً، مترجماً، ثم أنه أفادني في الترجمة، وفي الحصول كذلك، على كلمات رائعة في نصوص إبداعية صادقة، وباللغتين، مفردات سواء كانت عربية أو إيطالية، كانت بالنسبة لي، مؤنسة جداً في بداية تجربتي مع الغربة الطويلة، واللغة الجميلة والصعبة في آن.
اللهم اغفر وارحم أخونا الشاعر النبيل، الأستاذ إدريس الطيب الأمين، صاحب التجربة الحياتية العميقة، والمثقف الإنسان.