الجزء الثاني: اشتغال الراوي والتصوير
1.2 اشتغال الراوي في القصة
يتحقق في قصة الأستاذ اشتغالا مميز من الراوي ليجعل من السخرية التي يمارسها أكثر فعلا وكذلك لجعل المروي له أكثر اندماجا في أحداث القصة، ويستخدم لذلك الغرض عدة أساليب سردية كما سنتابع.
أولا. تفعيل العلاقة مع المروي له بشكل مباشر وتحفيزه عبر مخاطبته
الراوي منذ بداية القصة يقدم القصة عبر خطاب ساخر مناور، لكنه هنا في المقطع التالي وهو يحدث المروي له عن الشخصية ويصفها يفعِّل العلاقة بينهما بطريقة مميزة، لنتابع كيف يحدث المروي له في العبارات التالية التي تحتها خط؛ حيث نلحظ أن الراوي هنا يتحدث بشكل مباشر للمروي لهم ويضعهم في صفه، فهو يبوح لهم بما يراه من وصف عبدالغني:
“… ومع أنه كان يرتدي بدلة، إلا أنك كنت تستطيع أن تدرك للتو أنه لم يعتد ارتدائها، فقد كان يخطر فيها وكأنه لا يزال يرتدي الجبًة أو الجلباب، ويمد يده وكأنها لا زالت طليقة في الكم الواسع الهفهاف.. وكنت تستطيع أن تقسم أن نار المكوى لم تلسع بدلته منذ أن وجدت وكذلك لا تقدر أن تخمن متى وجدت،”
في المقطع السابق يحدث الراوي المروي له بشكل مباشر مفعِّلا العلاقة بينهما تأكيدا على البعد الساخر الذي يشكل القصة كلها، نتابع في المقطع الذي تحته خط كيف يحدث الراوي المروي له بشكل مباشر فهو يخاطبه (أنك.. تستطيع.. تدرك) ثم (تستطيع..تقسم .. لا تقدر أن تخمن)
وهذا اشتغال مميز من الراوي على المروي له وتفعيل للخطاب ليكون في حدوده القصوى.
ثانيا. النزول باللغة إلى مستوى يناسب البعد الشعبي للشخصيات
نتابع كيف ينطلق الراوي من وعي الشخصيات وتصوراتها ولغتها ليصور لنا حال ومشاعر عبدالغني:
“كان في لحظة من تلك اللحظات التي يحس الإنسان فيها أن الدنيا عال، وكل شيء جميل”.
وهنا نجد الحوار حول الطفل في البحر بين أميرة وزوجها حيث يستخدم الراوي اللهجة ليعبر بشكل مباشر عن تصورهما للأشياء:
“وانتفضت إمرأته تقول وغيظها يشتد:
– خيرك خيرك؟؟.. إنتا مش شايف؟!.. شوف يا راجل!..
– بس لو تطولي بالك.. أكيد أبوه وأمه هنا واللاهنا.. إمالا كيف.. الله هيا مش لعبة ؟..مش معقول يا سيدنا الأفندي؟!..”
في المقطع التالي يوضح الراوي مزيدا من العلاقة بينهما من خلال اندماجه في تصورات كلا منهما عن الأخر، فالزوجة هنا تتصور تفكير زوجها بأنه حميري:
“وكان صبر الزوجة قد نفد فنطقت أخيرا وقد عدذبها فهمه الحميري!
– شوف يا راجل؟!.. الولد!
– وينه؟!
– ياباي عليك.. أهه يا أعمى!“.
– ثالثا. اشتغال الراوي من خلال تسمية الأستاذ وتكرارها في كل حين
عنون القاص قصته بالأستاذ وظل راويه يتحدث عن عبدالغني يردد اسمه رابطا اياه بالأستاذ في اغلب القصة، لنتابع ذلك مع أول تلك المقاطع في بداية القصة كما يلي:
“ذات عام كان عبد الغني الأستاذ وزوجته في بنغازي وكانت الدنيا صيفا، وعبد الغني الأستاذ”
بينما هنا نجد اسمه يذكر باستمرار:
كانت في دم عبد الغني الأستاذ… وبالقياس الى وجه عبد الغني الأستاذ…كان عبد الغني الأستاذ اشتراها“
وهذا الفعل من الراوي نوعا من التواتر في التسمية لإبراز التناقض بين الاسم والمسمى.
رابعا. تفاعل الراوي مع رؤية الشخصية وإبرازها بشكل غير مباشر
ينطلق الراوي كما نتابع في المقطع التالي من وعي عبدالغني، ويصور فهمه للحظة التي هو فيها وتصوراته من خلال كلمات تعكس وعيه العميق:
“وكان عبد الغني الأستاذ وهو يهم بخطوه ليلاحق إمرأته كان في لحظة من تلك اللحظات التي يحس الإنسان فيها أن الدنيا عال، وكل شيء جميل،”.
وكذلك نجد الراوي هنا يستعير في ألفاظه ما يناسب وعي الشخصية وهو يحكي عن خروجهما في (طراوة العصر).
بينما هنا نجد حضور وعي شخصية عبدالغني الذي ينطلق منه الراوي ليصور ما يراه؛ فصورة القارب الصغير كصورة القارب الورقي الذي يصنعه العابث، كما يسميه الراوي تضامنا مع وعي الشخصية التي ترى في ذلك كله عبثا:
“قارب أبيض صغير يكاد يبلغ حجمه حجم قوارب التي يصنعها العابث بالورق”.
2.2 البعد التصويري في القصة:
تميزت القصة بتصوير الراوي المميز للأحداث والشخصيات وبسعة ملفوظ الراوي فالكلمات عنده مفتوحة وهو ينهل من قاموس متعدد،
أولا. جماليات التصوير في القصة
تميز الراوي بقدرته على التصوير وقد تابعنا في جانب السخرية جزءا مهم من قدرته على التصوير الموظف لغرض إبراز جانب ما من الشخصية؛ بحيث يجعلها أضحوكة أمام المروي له، لنتابع هنا بعض الجوانب الأخرى في تصويره
1. صورة الطفل في القارب:
صورة الطفل في القارب شديد التميز، بدأها الراوي بالتأطير؛ حيث حدد الزمن والمكان معا من خلال صورة العصر وانعكاس الشمس على البحر:
“(أ) كان العصر قد بدأ يشحب وينتهي، وكانت الشمس الذاهبة التي في السماء والشمس الغارقة المدفونة في الماء..
(ب) كانت أشعتها تصطدم على سطح الموج الصغير المتراقص فتتفتت الشعاعات إلى ملايين من ذرات ماس تتناثر في كل إتجاه.. (ت) وفي وسط هذا البريق العائم كان هناك قارب أبيض صغير يكاد يبلغ حجمه حجم قوارب التي يصنعها العابث بالورق.. (ث) وكان في القارب طفل.. (ج) طفل رقيق يرتدي بذلة البحارة البيضاء وكان الهواء يداعب شعره الأصفر في عنف رقيق وكأنه ما يهب إلا ليداعب شعره..(ح) وكان الصغير جالسا في أتم الهدوء وفي إتزان الكبير المالىء يده من قوته، (خ) وذراعاه الصغيرتان تمسكان بالمجاديف في ثقة وتعملان بلا هوادة..”.
يتم في الصورة السابقة الانتقال من الكل إلى الجزء، وذلك بتصوير الإطار العام، ثم القارب ثم الولد ومن ثم التركيز عليه وعلى شكله الخارجي وبعض مما ينعكس من طبيعته كما يلي: في (أ) بدأ الراوي بوضعنا في إطار حدوث الحدث وهي صورة للفضاء المكاني عصرا، فيه انعكاس اشعة الشمس على البحر، ثم في (ب) نتابع صورة رائعة لتفتت أشعة الشمس على الموج وهو إطار محيط أقرب للشخصية (الطفل في القارب)، ثم في (ت) نجد صورة القارب في وسط هذا البريق العائم، ثم في (ث) صورة الطفل في القارب، ثم في (ج) صورة مباشرة للطفل ذات بعد بصري فيها أسطرة للشخصية كما نجد فيها آثر لحاسة اللمس من خلال الحديث عن الهواء الذي يداعب شعره الأصفر، في (ح) و (خ) نجد صورة أخرى للطفل فيها أسطرة له؛ فهو برغم صغر سنة يشتغل بحرفية الكبار، وواثق من نفسه.
2. صورة يتداخل فيها الحوار بالتصوير
في المقطع التالي صورة مميزة فيها اشتغال من الراوي وهو ينتقل من رؤية إلى أخرى، حيث في (أ) تمّ تصوير وجه الشخصية الذي سيتكلم وتمّ تسميته بنفس التسمية التي درج عليها الشخصية المركزية عبدالغني فالراوي هنا يسميه بالأفندي، ثم انتقل الراوي من وجهه إلى قوله في (ب)، ثم ننتقل إلى صورة الجمهور على الشاطئ وهو ينقل بصره نحو الشخصيتين في البحر في (ت)، ثم في (ث) نتابع الصورة التي هي مصدر كل هذا الحدث وهي صورة الوالدين وهما يحييان ابنهما في البحر.
“(أ) وفي هذه اللحظة تهلل وجه الأفندي إبن الحلال وقد اشتد إعجابه بما يجري وقال وهو يبتسم ويشير إلى الشاطىء الأخر:
(ب) – أهم!.. إهم!..
(ت) وأقلعت العيون كلها صوب الشاطيء الثاني (ث) حتى إلتقت بشبحين بعيدين ممدودين يرتديان أبيض في أبيض، وفوق رأس أحدهما عمامة خضراء وهما يلوحان بأيديهما، والطفل يلوح لهما هو الأخر بذراعه القصيرة في نشاط وغبطة”.
الصورة السابقة كما رأينا فيها انتقال من لقطة جزئية إلى أخرى لتحقيق صورة كلية, وهي بذلك تتشابه من حيث أسلوبها مع الصورة السابقة وإن أختلف الإطار، فإطار الأولى أكثر ضيقا يتمثل في صورة الطفل في البحر وهو يسبح، بينما الإطار التالي يتمثل في صورة جمهور المصطافين وهم يتابعون الأسرة في البحر: الوالدين والولد.
ثانيا. سعة الملفوظ وتنوع الصور الاستعارية وجِدتها
تميز وصف الشخصيات في القصة باتساع دائرة الملفوظ التي يستخدمها الكاتب وكذلك بتنوع وتميز الصور الاستعارية التي كانت ترسم الشخصيات، لنتابع هنا وصف الأستاذ عبدالغني وهو يصف جسمه:
“… ولا أكتاف ممشوقة تنسيك رفعه، وإنما شيئان هاكعان مضمومان تتعلق عليهما سترته كأنها معلقة على شماعة..”
ثم يصور هنا حركة يده في البدلة كأنما في جلبابه واسع اليد:
” طليقة في الكم الواسع الهفهاف”
بينما هنا يرسم صورة وجه الأستاذ عبدالغني: “قدمت سحنته حتى اسودت، وتناثرت تجاعيده في طيبة قبيحة ولكنها طيبة وسلام،”.
لنتابع هنا جزءا من وصفه للزوجة أميرة وملابسها:” فوق شعرها الطويل البري قبعة ذات ريشة … تسدل فوق وجهها البيشة الكحلية“.
وهنا تنوع الملفوظ وهو يصف حالة الشخصية: “وإنما هي صامتة مدهوشة ذاهلة”
وهنا يصور التفاعل بين الزوجين من خلال تصويرات مميزة والفاظ جديدة:
“ومضغ ملء فمه فرحا … تهضم إنبهارها، وقلبه يرفرف بالفرحة …عسعس عبد الغني الأستاذ بلا وعي في جيبه …فبان شعره الخفيف المنكوش … ومصمص ما تبقى من الحمصة في ضرسه الوحيد الذي نخره السوس وإستعد للشرح..
ينظر إليها ضائع العقل… قبل أن يرتد لها رمشها… وكأنه اعمى يريد أن يلضم إبرة..”.
صورة الأستاذ عبدالغني والدهشة على وجهه:
ويتلاحق حاجباه العريضان الخفيفان صانعين تجعيدة مفرطحة فوق أنفه،
هنا تصويره من وعي زوجته: ” عدذبها فهمه الحميري!”
لنلاحظ تصوير الطبيعة عصرا وهو تصوير مميز مع استعارات خاصة: كان العصر قد بدأ يشحب وينتهي، وكانت الشمس الذاهبة التي في السماء والشمس الغارقة المدفونة في الماء…فتتفتت الشعاعات إلى ملايين من ذرات ماس… البريق العائم”
بينما هنا يصور القارب و الطفل الذي في القارب:
“يصنعها العابث بالورق… الهواء يداعب شعره الأصفر في عنف رقيق…وفي إتزان الكبير المالىء يده من قوته،”
وهنا تصوير نظر المصطافين على الشاطئ إلى الزوج وزوجته باستهزاء كأنما لعق باللسان:
“فمضى يلعق ثوب أميرة، وقبعة عبد الغني وحذاءه،”.
وهنا صورة شخص من المصطافين وقد أندمج في مشهد الطفل في البحر ووالديه:
“وقد امتصه المشهد …”
وهنا تصوير رغبة عبدالغني في مواصلة الحوار مع الواقف بجانبه:
“يلحم الحديث حتى لا ينقطع.
كما قام بتصوير الحوار بين مجموع الأشخاص على الشاطئ كأنها مجموعة من الدوامات
“… بالدوامات الصغيرة من النقاش التي أخذت تلف وتدور“
وهنا صورة الزوج وزوجته في الحافلة وهي صورة لا تخلو من سخرية:
“وفي أخر الأتوبيس وهما عائدان إلى القرية مدفونان في زحمته،”
وهنا صورة الأم وقد ضربت أبنائها لمخالفتهم أوامرها “ولهلبت كلا منهم بوابل من الصفعات”
وهنا صورة الولد أبنهما وخجله: “يضع رأسه خجلا بين فخذيه”
يمكن أن يلحظ القارئ كيف وظف الراوي في سرده وتصويره كلمات مختلفة متعددة بعضها معروف والبعض الأخر غير معروف، وذلك من خلال صور مميزة فيها استعارات غريبة، مما جعل الصورة عنده مميزة ومختلفة ومعبرة بدقة عما يريده من مواقف وابعاد في تلك اللحظة السردية.
3.2 خلاصة:
تميزت القصة ببنائها المتقابل، وهو بناء بين عالمين وفضائين مكانيين، والمقصود بالعالم هنا مجموع الشخصيات ذات نمط تفكير محدد فنجد أنفسنا بين عالم أميرة المغلق المتشدد وزوجها المطيع، أمام عالم سكان المدينة الذين يدفعون أولادهم للتجربة والمجازفة.
السفر والوقوف على البحر والحادثة هناك وضعتنا في إطار حدث حقق توتر الشخصيات وأبرز عن طريقه الراوي دواخلها من خلال موقف رؤيتهم للطفل في القارب بوسط البحر لوحده، ثم وجدنا طبيعة التعامل في العالم الأخر، عالم أميرة بالطبع مع الأطفال وهي تسلخهم ضربا لأنهم (عاموا في الجابية).
مارس الراوي فنونا مميزة من السرد لتحقيق سخرية كاملة من الشخصيتين ونمط حياتهما وتفكيرهما، وجلد الزوج الضعيف بمهماز سرده جلدا متقنا، وهو يبرز ضعفه وسقوطه أمام زوجته. وأستخدم لذلك كافة الطرق الممكنة من تصوير مباشر للشخصيتين والسخرية منهما من خلال إبراز غرابة ملبسهما وتصرفاتهما، ثم القيام بالسخرية من خلال إبراز صورتهما من خلال التفاعل بينهما الدال على فوقية الزوجة المتسلطة، وكذلك مارس السخرية من خلال صورتهما في عين الأخرين.
كما حقق الراوي تفعيلا متميز لخطاب قصته من خلال الألعاب السردية المميزة التي كان الراوي يقوم بها ومنها تفعيله للعلاقة بينه وبين المروي له من خلال مخاطبته بشكل مباشر، وأيضا من خلال نزوله لمستوى لفظ ووعي الشخصية، والتعبير عنها بكلماتها المناسبة، وتوظيف اللهجة عند الحوار. كما كان الراوي يحقق من خلال تواتر تسمية الأستاذ لعبدالغني نوعا من السخرية الصامتة؛ حيث يتناقض التسمية مع واقعه.
البعد التصويري في القصة كان مميزا أيضا؛ حيث وظف الراوي صورا حواسية بصرية، كان ينتقل فيها من جزء من أجزاء الصورة إلى آخر ليضعنا في النهاية في صورة متكاملة كلية، تحقق غرضا سرديا محددا؛ ومنها تصويره للأستاذ، ثم تصويره لزوجته في بداية القصة، وكذلك تصويره للطفل في البحر، وتصويره لمواقف المصطافين على الشاطئ من حدث وجود طفل لوحده في القارب، ثم الصورة المميزة لوالديه وهما قادمين.
تميز التصوير أيضا بقدرة الراوي الطيبة على توظيف ملفوظات مختلفة جديدة ومناسبة، وكذلك قدرتها على تحقيق تنوع في توظيف صور ذات استعارات جديدة أو تصويري استعاري مختلف عن المعتاد، وهو بهذه التقنية التصويرية التي يتقنها ويستفيد منها جدا في هذه القصة المميزة يعد (في تصوري) صاحب منجز خاص مهم يبز فيه كثيرين من كتّاب القصة الليبيين.