محمد التراسي
يظن الكثيرون أن الكتابة هي عمل يعمله الكتّاب فقط، بيد أن ضعف هؤلاء الكثيرون يمارسون الكتابة كل لحظة، طبعا ليس شرطا أن تكون الكتابة حكرا على الورق و شاشة الكمبيوتر.
فنحن نكتب في كل مكان وفي أي زمان وحيثما كنا في الأرض أو تحتها أو في السماء، وكأنما ما نخطه هو توقيع للدلالة على المرور من هنا، في زمن لم يعد للإنسان من ذكرى، غير كلمات تلحقه بشفقة – رحمه الله – فنكتب لنقول ها نحن هنا، مازلنا أحياء في الأرض مثبتين أو في السماء معلقين، رغم تجارب الهجران والفراق والخذلان.
كتبنا سنين على مقاعد الدراسة منا من كتب اسم أول حب وأخفاه كما يخفي المجرم دليل إدانته – أيمكن أن يكون الحب جرماً يحاسب عليه القانون – فتجد الواحد مني يتنكر من الحب كما يتنكر من الحرام، ومنا من رسم اسمه متوقعا أن يكون له ذات يوم شأن ومقام، ومنا من كان همه النجاح المزيف فكتب إجابات أسئلة استفاد منها من جلس على كرسه يوم الامتحان، ومن كان النجاح هدفه لا همه لم يكتب شيئا، تاركا للكتّاب أصحاب الروايات الخالدة العظيمة أن يصعدوا على أكتافه بسلم من الكلمات.
كتبنا على الذاكرة واستنزفنا من وريقاتها الكثير دون الاحتفاظ بورقة على الأقل لأواخر العمر، ودونما القدرة على المحو، كما كنا نفعل ونحن صغار في الابتدائية – كم نحن بحاجة لقلم رصاص لنتمكن من محو أخطائنا وخطواتنا غير الحليفة بسهولة بالغة.
كتبنا على قلوبنا قصص لا يمكن أن تتكرر أو أن تعاش ثانية، لا لأن أصحابها خذلونا ذات يوم، بل لأننا لا نتقن التمثيل وتكرار المشاهد التي حملت أخطاء ووجب إعادتها، فشطب المخرج عن أسمائنا من قائمة الممثلين الأبطال وأسند لنا أدوار الكومبرس، التي لم نفلح فيها أيضا، كم تمنيت أن يكون لنا بروفة قبل كل قصة ندخلها فنتمكن من إعادة مشاهدها وتصحيح الأخطاء وتعديل الكلمات وصياغة الحوار، حتى نخرج بقصة يخلدها التاريخ بنفسه.
كتبنا رسائل لمن لم يعد لهم من صندوق بريد لاستقبالها فعادت إلينا ملفوفة في زجاجة، تقاذفها أمواج البحر نحو الشاطئ كجثة مهاجر، عائدة من سواحل روما، التي برغم أن كل الطرق تؤدي إليها فقد اختار البحر ليكون مداده لكلماته التي لم يفلح في قولها حين كان في وطنه.
كتبنا روايات عن أحلام المساء، وحينما استيقظنا وجدنا الأوراق خالية بيضاء وعلى يمينها بركة ماء بلون السماء، زرقاء تكاد تشفق علينا من الدمع المتساقط عليها قطرة قطرة، كما تسقط النجوم من أعالي السماء.
كتبنا أشعار وقصائد وردية لكل حبيب ولد لنا من جديد، مقتبسين من نزار وأحلام وغادة ومحمود لانهم في يوما ما قد مروا من مكاننا هذا، وها هي كلماتهم تشهد بذلك، وما زلت تتداول بين العشاق، وتكون مفتاح لكل بداية قصة.
كتبنا وما عسانا أن نكتب، فلم يعد من يستحق أن نكتب عنه، فالكتابة هي تخليد لشخصيات رأيناها بعيوننا أبطال معارك وفرسان، فارتأينا أن نسطر أسماءهم على كتب التاريخ، لكن غيرنا رأوهم بعيونهم أبطال معارك عشقية لا تبقي للضحية من وداع، وآخرون وجدوهم على قارعة الطريق يبيعون أوهام وأحلام، فكنا أول الزبائن وأول من يشتري.
تخيلت يوما وأنا أكتب حينما نفذ حبر قلبي وتوقفت عن الكتابة، ماذا لو كنت حبرا، وأدمنت الكتابة.
من المؤكدة أنني سوف أرمى كما يرمى قلم الحبر الفارغ المستهلك في سلة النفايات، واستغرب كيف يرمى القلم الذي كتب عشرات بل مئات القصص والكتب والروايات والأشعار، كان يجب أن يخلد وان يتوحد مع القصة، التي شارك بكتابتها بكل قطرة من دمه الأزرق.
فما أجمل أن تكون بحرا، وأدمنت الكتابة، عندها سيتسابق الجمع ليبحروا في بحر كلماتك دون جلب عدة النجاة فالغرق فيها حياة، ورغم تشابه الحروف بين “البحر والحبر” إلاّ أن موضع الحرف يقلب الآية، فلا تكن حبراً ينضب بل كن بحراً لا ينفد.