قصة

العزيزة

 

–       فيه مشكلة ..

و مضى يبحث عن شيء ما حوله ، الفوضى تعم المكان ، و القارب العائم لا يساعد على البحث البتة ، حبال الشبكة الخضراء يلمعُ لونها تحت سطوة صورة الماء العاكسة على جانب القارب ، تتخلل الحبال الخضراء حلقات برتقالية اللون تزيد من فوضى الألوان بالمكان ، ترتبك الحبال في نقطة لكي تتحرر في نقطة أخرى ، الحبل الغليظ يمتدُ من القارب إلى المرسى لكيْ يعقده في العامود المثبت باليابسة ، أخذ يبحث عن شيء ما لم يجده  ، أزاح عنه بعض الصناديق ، صندوق الأطعمة ، قنينة كبيرة من الماء  قنينة أخرى مُلطخة ببعض الزيت مع القليل من الأتربة التي تتوشحها قد بلعت داخلها بعض النافطَة  ، صندوق أخَر أكبَر لوضع السمك ، كان يبحث ما بين الأشياء ، توهجت جبهته المُشبعة برائحة الملح و العَرق و شمسُ النهار بدأت تُلقي بسلطتها ، كان من المفترض أن يتحرك منذ ساعة قبل شروق الشمس ، لكن ” العزيزة ” لم تقبل ذلك ، الماتور العتيق يبدو لا يستجيب  ، تأكد قبل ذلك من أنّه قد ملأهُ بالنافطة ، لذا لابد أن يكون العُطل بالماتور ذاته ، مضى يبحث عن شيء ، عن صندوق العدة لربما … لكنه لم يجده . و هو قد تأخر ، و الصيادان اللذان يصاحبانه سئما معاندة المركب الهَرِم .

–       فيه مشكلة ، وين صندوق العدة ؟ .

سأل أحد معاونيه ، و كأنّه يسأل نفسه ، هزّ الرجُل كتفيه و قد امتص شفته العُليا لتظهر الشفة السُفلى بشقوقها الملحِيَة مُتعجباً . و راحَ يحاول مع الماتور العتيق ، كان يضربُ الماتور في لحظة و يسحبُ السلك في لحظة أخرى دون جدوى ، رفع عنهُ قبعته الحمراء و التي كان والده يرتديها ، مسح عنهُ عرقه بعد أن تغلغلت إحدى قطرات العرق المُشبعة بالملح في فمه ، و ” العزيزة ” لا تريد الاستيقاظ … اكتسحته رغبة عنيفة بأن يُدخّن ، دسّ يده في جيبه ، أشعل سيجارة ، ثم نَهض ، نَزل عن القارب ، تقدم خطوتين و تلفت خلفه ، يسحبُ كمية من السيجارة ، فينفثها ،تغيب ” العزيزة ” قليلاً عن أنظاره وسط سرب الدخان المتصاعد ، يتذكر اليوم الأخير الذي رآها فيه تغيب عن ناظريْه في قرصِ الشمس النائمة على البحر ، كانت ” العزيزة ” حين ذاك ملكُ والده ، أبحَر الوالد مع ساعات المغيب الأولى ، أدَار المُحرك ، و تنحى بعيداً خارجاً من حوضِ المرسى المليء بالأحجَار المُتكسرة ، كان دُخان ” العزيزة ” يصنعُ مع قرص الشمس لوحة فنية جميلة ، يرقصُ القارب الأزرق على جسد البحر العاري ، صانعاً خلفه بعض الدُخان ، لم يكن يُدرك أنّها هرمت ذلك الوقت ، كان والده يعلم ذلك و لكنه أصر على تلك الرحلة ، غاب الوالد مع بعضِ الرفاق ، و غابت ” العزيزة ” معهم في الأفق ، ابتلعهم البَحر في منتصفه بموجةِ مدٍّ هائلة ، حاول الرجال العودة إلى القارب إلا أنّهم لم يستطيعوا الوصول إليه ، كانت العزيزة تبتعد … تبتعد بعيداً ذليلة لكن ليس إلى حُضن البحر ، بل إلى الشاطئ هادئةً ، عند الشاطئ لم يحالفها الحظ هي الأخرى ، فقد تُوجت خيانتها بأن اصطدمت بجرف صخري حاد ، و تقاعدت منذ ذلك الوقت … أخذ لونها في الشحوب على رصيف المرسى حيثُ الخونة و العجائز من القوارب تصطفُ في فوضى غريبة .

و هُنالك كان هُو ، يبحث عن الكَنز الذي خلفه والده ، لم يتعرف عليها في البِداية ، إلا أنّ اسم ” العزيزة ” المكتوب بخط الرُقعة بطلاء أسود كانت شمسُ النهار و رائحة المَلح قد أمالته إلى الرماد .. كما أنّ اللوح الذي يحملُ الاسم كان قد تشقق قليلاً ليتسع الشق آخذاً معه رقم القارب المكتوب على نسق الأرقام الهندية ، اللون الأزرق قد هَفت ، قرر حينها أن يعيد ” العزيزة ” إلى الحياة ، اقترب من القارب ، اشتم ألواحه العتيقة ، تفقد الهيكل الذي لازال سالماً ، الماتور الذي خرب لم يعد يصلح لشيء ، استبدله بماتور مُستعمل ، أعادها للحياة لربما تعود ذكرى والده ، ابتاع حكتي طلاء إحداهما لطلاء قرمزي ، الأخرى كان بيها طلاءً أبيض ، اكتسى القرمزي كامل القارب ، رسم بالطلاء الأبيض خطين متوازيين عريضين على طول القارب ، ثم كَتب بذاتِ الخط اسم العزيزة يبتهج للحياة بجانبها 538 رقم القارب ، و أخذها لرحلة في البحر الذي امتص عظام والده ، مضى على أولى رحلاته بها عشر سنوات و الآن العزيزة تقرر أنّها هرمت ، لكنه لم يكن ليستمع لها ، أراد اللحاق بخط الصيد .

في أعلى الهضبة كانت ترقد سفينة حديدية قد حكم عليها الصدأ بالخراب ، ترقد عند بوابة المرسى تُنبه الجميع بمصير من يضع ثقته بالبحر بالسفن بالأسماك ، يمتُد خط من الأحجار الكبيرة صانعةً طوقاً على المرسى ، خط القوارب المتشابهة الراقد عند نقطة الالتقاء بين التربة و المياه ، العزيزة بمظلتها الصفراء التي صنعها خصيصاً لكي تحد من سلطة أشعة الشمس و من حدة الأيام الماطرة ، الندى يتسربُ من الغطاء الأصفر في قطرات متلاحقة ، ينزل من العمود ، ثم بطريقة أو بأخرى يجد لنفسه مكاناً في البحر ، و هو ، لم يجد مكانه في البحر ، و لكنه أراد أن يري والده فقيد البحر أنّه جدير بالثقة ، أراد أن يستمر إرث العائلة كما هو ، الرايس نوري سيكون اسماً رناناً ، و بعد كل عملية صيد ، سيجني ثروة من البراكة التي يبيع بيها سمكه بالمقربة من المرسى ، و السفينة الحديدية الفانية  تنبئ بأن البحر و المال لا يجتمعان إلا إذا كان الموتُ أو الذوبان كالملح ثالثهما . أسرع نحو الغرف التي تُطل على المكان ، غُرفة تعتريها رائحةُ السمك ، مكتب هرم ، صناديق على اليمين من الباب ، صورة قديمة لسفينة ما كُتب تحتها ” فيلادلفيا ” خلف المكتب ، رجُل أبيض البشرة ، شارباه معقودان بقوة على وجهه ، ضخم بضخامة البحارة ، يشرب من كأس شاي بطول رُسغ إنسان ..

–       فيه مشكلة ، الماتور ما يخدمش ، و صندوق العدة مهناش …

–       قداش مرة يا نوري ، قلتلك الخربة هذه معاش تصلح ؟

–       الماتور ما يخدمش . و تغاضى  عن كلام الرجل و كأنه لم يسمعه …

–       خوذ العدة متاعي ، لكن ننصحك أدورلك على فلوكة ثانية خير .. أما هذي !

–       هذي بخير ، شوية تصليحات و تمشي أمورها …

نفخ الرجُل الضخم في شاربه ، و غطس وجهه في كوب الشاي يتجرعه بسرعة كما لو كان خمراً ..

–       بوك كان راجل طيب يا نوري ، بس ما سمعش كلامي …

و ذكرى والده تدور في باله ، و الماتور لا يشتغل ، و لكن البحر هادئ ، و الوقت صيف ، و لا وجود لأمواج ثقيلة ، و عليه أن يكسب الوقت و أن يجعل الماتور اللعين يشتغل ، كما عليه أن يعود بالسمك لأنّ البراكة فرغت ، و الزبائن الكثيرون يثقون به ..

–       الله يرحمه ..

ثم أزاح وجهه ناحية العدة ، و لما خلّف الرجل خلفه التفت قليلاً ليشكره ، و عاد مسرعاً نحو القارب . عاندها قليلاً ، لكن انتصر على العُطل أخيراً ، و غاب بالعزيزة عن المرسى ، تحت سلطة الشمس الحارقة ، لا يعلم هل سيعود مُحملاً بثروته ، أم أنّ العزيزة ستخذله يفكر برأس – قد عشقت رائحةُ المَلح – بالمال و الكثير منه ، يزيح عنه قبعته الحمراء ، يبتسم في وجه رفيقيه ، يمسحُ العَرق عنه بعد أن نبهته إحدى القطرات المالحة التي تسللت إلى فمه ثم يربتُ على اللوحِ الجانبي للعزيزة ، يتسللُ كفه نحو اسمها ليغازلها ، يتنهد ، ثم يغيب في الأفق ..

مقالات ذات علاقة

لا تقرءوا كلــماتي

غالية الذرعاني

بيت صغير ضاحية المدينة

سالم الهنداوي

وُجُوْه…

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق