أسماء مصطفى
– أمي لم اشتريتها؟ أصبحت لدي خزانة مكتظة بالدمى.. أنا أريد لعبة بازل.. أشترك أنا وأنت في تركيبها قطعة قطعة.
عدت لحظتها أعوام مديدة إلى الوراء، وارتسمت أمامي ملامح بيتنا العتيق الذي ورثه أبي عن أجداده، ببابه الخشبي البالي ونوافذه المشققة التي تحكي قصص أجيال وأجيال مرت بها حتى تعبت وتهالكت، وشجرة اللبلاب التي تغطي جدرانه القديمة المتسخة وكأنها آثرت أن تسترها وتخفي سوءتها عن العيون. وتمثل لي حلم صباي الوحيد وأمنيتي التي رأيتها شاهقة نائية يصعب الوصول اليها… وهي أن أمتلك دمية… فامتلاك دمية في منزل يتكدس بالأطفال والمراهقين وأب كادح ينوء بحمله الثقيل وبالكاد يستطيع توفير الضرورات هو حلم صعب التحقيق وبعيد المنال كبعد تلك النجمات الجميلة التي كنا نحاول أن نعدها أنا وأخوتي من سقف منزلنا في ليالي الصيف الرائقة.
ظل ذلك الحلم يتراءى لي ويلح علي.. أتخيله في صحوي وأسدل عليه جفني.. حتى تلك الأمسية التي زارتني فيها رفيقتي في المدرسة.. عند دخولها دق قلبي بعنف وأنا أنظر إلى تلك الدمية الشقراء الجميلة التي تحملها.. نظرت إليها بشغف وتمني وحسد صغير مازال محتفظا بنعومته.. وصارحتها بأعجابي وحبي لها على استحياء.. وفوجئت بها تقول لي خذيها.. أنا لدي أكثر من واحدة… كنت راغبة في أخذها متلهفة للمسها… واشتهي احتضانها وأتطلع بشدة لامتلاكها.. لكن حيائي وعزة نفسي منعاني أن أمد يدي نحوها.. لكنها أصرت وتركت تلك الدمية النفيسة بين يدي… ورحلت.
بعد خروجها اجتمع أخوتي الصغار والكبار.. أيضا يتفرجون على الدمية وعيونهم مسلطة عليها بعجب مأخوذين بجمالها ومبهورين بوجودها في بيتنا الذي لم يعتد أن تكون هذه الأشياء الرائعة ضمن مقتنياته.. معبرين عن امتنانهم وفي ذات الوقت استغرابهم من كرم صديقتي وطيبتها.
تلك الليلة أفسحت لها مكانا جانبي في الفراش وتنازلت لها عن وسادتي وشاركتها لحافي.. ونمت بعمق وأنا أشعر بسعادة من الصعب أنا أصفها.. وكأني ملكت الدنيا وما فيها.
عندما استيقظت صباح اليوم التالي.. أبلغتنا أمي أن عائلة خالي ستأتي لزيارتنا.. كنت أطير فرحا عندما أسمع بمجيئهم ولكنني ذلك اليوم لم آبه كثيرا لذلك.. فورائي أشياء عدة سأفعلها مع دميتي.. ولا أحتاج للهو مع أحد سواها.
تحلقت بنات خالي الثلاث حولها يرمقنها بدهشة وطمع… وكل منهن تتمنى لو أنها تمتلك واحدة… وجلهن يردن أن يحملنها ويضعنها بجانبهن وأنا أنظم ذلك التزاحم والإقبال عليها بكل اعتداد وفخر… وعند رحيلهم أخذت ابنتهم الصغرى تبكي بحرقة ورأيت أمي تسألها عما بها… ثم تأتي لتنتزع دميتي من يدي وتمنحها لها.
أمي الطيبة كانت تؤدي واجبا اجتماعيا من وجهة نظرها فمن العيب أن تذهب ابنة أخيها تبكي من أجل لعبة تافهة… حينها تصورتها كأحد الكواسر نشبت مخالبها في حلمي الغض وافترسته فتناثرت دمائه وملئت زوايا ذاكرتي ولوثتها دون ان تعي.
هطلت دموعي تلك الليلة غزيرة كغيمة كريمة جادت بكل ما حازت حتى لم يبق في جوفها إلا الخواء… بكيت لليال متواصلة على فرحتي التي لم تمكث معي سوى ليلة واحدة.. ليلة يتيمة تحقق بها المراد وتلاشى بسرعة… ثم أصبح كابوسا أراه كل ليلة أستعيد فيها لحظة اغتصابها مني ومنحها لأبنة خالي الماكرة.
نظرت إلي ابنتي وقلت لها مؤكدة:
– احتفظي بها.. المرة القادمة سأحضر لك لعبة البازل التي ترغبين.
بعد عدة أسابيع دخلت على صغيرتي بعد رجوعي من السوق وأعطيتها دمية ضخمة رائعة جلبتها معي من محل مشهور لبيع الدمى التي لها اسماء معروفة… وفوجئت بها ترميها على الأرض بقوة حتى أحدثت صوتا اخترق تلافيف الماضي البعيد وتقول لي بصوت غاضب:
– لم تحضرين المزيد من الدمى يا أمي؟؟ أنا لا أريدها.
عندها فقط أدركت أنني أحضرها لنفسي وليس لها… فذلك الصدع العميق الذي حفره فقداني لشيء قضيت الليالي وأنا أتوق إليه في طفولة صريعة الحاجة والعوز لم تستطع كل تلك السنين أن ترممه.. ولا تمكنت كل تلك الأشياء التي امتلكتها فيما بعد أن تواسيني وتنسيني حرماني إياه.
2020/5/29