المقالة

الذاكرة المشطوبة

نحو ذاكرة وطنية متنوعة

صالح أبوالخير

من أعمال المصور أسامة محمد
من أعمال المصور أسامة محمد

شطبت من نسختي المعتمدة
نصف الذي كتبت في المسودة
شطبت من مسودتي الاصلية
نصف الذي خططت في نسختي الرملية
لكنني …
من قبل ان أنقل ما خططت ، في هذه البطاح
تسبقني الرياح
تمضي بما كتبت
(سعيد سيفاو المحروق ـ طرابلس 1990)

قد يكون هذا المقطع من قصيدة الراحل سعيد سيفاو المحروق مدخلا مناسبا للحديث عن الذاكرة المجتمعية، ويمكنني الادعاء بأن المحروق هنا يقصد المشطوب والمحرّم من ذاكرته، ذاكرة الوجدان الأمازيغي، فهل يمكن لدولة ذات تعددية ثقافية أن تنتخب لنفسها ذاكرة وطنية (رسمية) وأن تفرض على مواطنيها تاريخا رسميا للوطن، بقوة الترهيب السافر أو بقوة القانون؟ ذاكرة تشطب منها الصراعات والأحقاد والثارات القديمة؟ نعم يمكن، ولكن علينا أن نميز بين ما هو ممكن وبين ما هو خيّرٌ ومشروعٌ أخلاقياً.

الذاكرة الاجتماعية هي تاريخ أي جماعة، حيث يمثل التقليد الشفهي لهذه الذاكرة، الوعاء الذي يجمع التعابير المتراكمة عبر التاريخ الطويل ويكثف التفاعل ويقوي الرابط بين أفراد هذه الجماعة، وهي أيضاً الممثل لوجدان كيان الجماعة. ولكن؟ أي ذاكرة تمثل هذا الوجدان الليبي؟ وهل هي ذاكرة واحدة؟ الحقيقة التي لا مراء فيها، هي أن ليبيا لا تملك ذاكرة تاريخية اجتماعية واحدة، بل عدة ذاكرات، وأن الليبيين شعبٌ مبتلى بالتاريخ، بما سبّب تعلق الليبيون بتاريخهم، والعمل على تكرار سرده واستدعائه. يقول إدوارد سعيد إن استثارة التاريخ هي أكثر الاستراتيجيات شيوعا في تأويلات المجتمعات المبتلاة بالتاريخ، وإن الذي يبث الحياة في هذه الاستراتيجيات ليس الخلاف على ما حدث في الماضي وما كانه الماضي فحسب، بل هو أيضا الشك فيما إذا كان الماضي ماضيا فعلا منتهيا ومختتما، أم ما يزال مستمرا في صور مختلفة. وهذه الاستثارة غير محسوبة العواقب هي ما أنتجت ظاهرة الذاكرات المتعددة في الوجدان الليبي، التي لا يمكن وصفها إلا بكونها جهلا بقيمة التاريخ وتوظيفه. ذلك أن معرفة التاريخ تنطوي على مجموعة من العبر والدروس، والعبرة الكبرى التي يمكن استخلاصها من التاريخ هي تجاوز التاريخ وتجنب تكراره، وهذا بلا شك من مهام السلطة السياسية في الدولة، عبر السياسات التنموية في مجالي التعليم والثقافة.

ومن المعروف أن الأصوات الشفوية في الحكايات والخرافات والأساطير والشهادات هي كلها وثائق تنقل عناصر التاريخ من جيل إلى جيل، فهذا هو خطاب الأسلاف المنقول بواسطة التوارث عن ألسنة الرجال والنساء، وهذا الخطاب كان أنجع آليات النقل، وهذا يفند إلى حد ما المثل القائل (ما قيل فرّ، وما كتب قرّ) لأن النقل الشفهي أشد تأثيرا من النقل المدوّن. صحيح أن الكتابة تيسر استمرار المكتوب وتقييده وأرشفته، لكن الأقوال الشفوية تبقي حيةً في ذاكرة الناس أكثر من الكتابة، وهذا ليس حالة خاصة بالمجتمع الليبي. وقد تمّيز هذا التقليد الشفوي بعدة مقومات أكسبته القوة والحيوية يأتي في مقدمتها استخدامه للهجات المحلية التي بفضلها تمكن من نقله بسهولة إلى الأجيال الصاعدة، عبر أفواه العجائز إبان السهرات العائلية وعبر كبار السن، وعبر الأمثال الشعبية، وعن طريق الشعر الشعبي الذي كان الجنس الأكثر أهمية باعتباره جنسا مميزا وحاضرا باستمرار لدى كل الطبقات الاجتماعية.

ولأن الذاكرة المعنية في هذه المقالة، هي ذاكرة شعبية لمجتمع تقليدي، تعتمد أساسا على التراث الشفوي زادا ثقافيا لها، ولأنه من خصائص القيم في المجتمعات التقليدية التمسك بالتقاليد القديمة تحت مسميات كثيرة، وقد يحاط بنوع من القدسية التي تعادي كل من يحاول المساس بها، عادة ما يصعب ويندر تعريض هذا التراث للتقصي البحثي الناقد. ولو أخذنا مثالا على ذلك من السيرة الشعبية الليبية لوجدنا مثلا أنه في حين أن قصة نص انصيص تروى على أفواه العجائز في شرق ليبيا بالطريقة نفسها التي تروى بها في غربها، محتفظة بنفس القيم والتعابير، فإن رمز البطولة الذي يمثله بوزيد الهلالي عند العرب، ليس هو رمز البطولة في الوجدان الأمازيغي، حيث لازالت سيرة أكسيل (كُسيلة) ومسحه ليده الملطخة بالدم وهو في أسر عقبة بن نافع، تقود الروح الأمازيغية المتمردة التي لا تنام على ضيم، وأيضا سيرة الكاهنة ديهيا مازالت تمثل ذخيرة تاريخية يقتدي بها الأحفاد ويقلدون ماضيها. ومع هذا التراث يتوارث المجتمع صراعاته وأحقاده وثاراته وتعيشها في شكل ذاكرة دامية جاهزة للاستثارة في أي وقت.

وبلاشك أن هذا التناقض التاريخي في السير والمرويات الشعبية كان من أسباب وجود هذه الحالة من التنازع في الذاكرة، ولكنه لم يكن الوحيد. فالمناهج التعليمية الليبية منذ ظهور دولة الاستقلال اتسمت بنهجها نهجا تنميطيا يؤطر ذاكرة تتعلق بمكونٍ بعينه، مهملة ذاكرة المكونات الأخرى، التي اعتمدت ــ منذ الاستقلال ــ وحتى يومنا هذا، على معيار يتخذ من الهوية العربية والتاريخ العربي عماداً أساسيا لقضية مناهج التاريخ في المراحل التعليمية المختلفة.

الكتابة التاريخية أيضا كانت وجها آخر تسبب في نشوء التنازع في الذاكرة المجتمعية الليبية، حيث انتهج كتّاب التاريخ في ليبيا نهجا يؤكد على الهوية العربية (المطلقة) لكل أبناء الشعب الليبي، تماشيا مع التوجه القومي العروبي للهيأة الحاكمة في ليبيا آنذاك، فظهرت كتابات تطال الهويات القومية لبعض المكونات الليبية، مثل عروبة البربر، والطوارق عرب الصحراء الكبرى وغيرها. وفي المقابل كانت كتابات بعض الكتاب الأمازيغ ردة فعل متوقعة على هذا النهج الكتابي، فظهرت كتابات هي في أغلبها مقالات صحفية نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تحاول إثبات هوية أمازيغية (ليبية) لكل مكونات الوطن، وردة الفعل هذه كانت تتزود من ذات المعين الذي تزودت منه الكتابات العروبية: محاولة الدفع بذاكرة هُووية واحدة ونسف باقي الذاكرات.

المؤسف أن هذه الذاكرة (المتنازعة) أدت دورا سلبيا في أغلب مراحل التاريخ الليبي، فلم يكن مستغرباً أن تتعدد ردود فعل المجتمع الليبي تجاه الغزو الإيطالي للبلاد، ولم يكن مستغربا أيضا الاختلافات الكبيرة التي رافقت ولادة دولة الاستقلال فيما بعد. وهذه التعددية لا ترجع فقط إلى أن المجتمع الليبي ـ المبتلى بالتاريخ ــ مرتهن لأكثر من ذاكرة فقط، بل ترجع أيضا، حسب الدكتور على عبداللطيف حميدة، لتنوع التركيب الاقتصادي والاجتماعي في الأقاليم المختلفة، والمكونات المختلفة، حين أثار هذا التراث الأحقاد التاريخية بين الجماعات الليبية وساهم في إذكاء الصراع.

غير أنه في الوسع اعتبار هذه التعددية وجها من وجوه التنوع الإيجابي، إذا ما تم العمل على إنتاج ذاكرة وطنية جامعة. ولكن يجب علينا الاحتراز من إمكان أن يكون مشروع إنتاج ذاكرة وطنية جامعة في ظل نوع من الهيمنة هو الدفع بذاكرة جماعة ما إلى الواجهة لتكون هي الذاكرة الوطنية، بحيث تقصى سائر الذاكرات وقد تتعرض للتهميش والتصفية لصالح هذه الذاكرة الوطنية الموهومة. ولأن أصحاب هذه الذاكرات لا يتنازلون بسهولة عن ذاكرتهم، فإن صيرورة الإخضاع والفرض بالقوة عادة ما تنتهي إلى الصراع المحتدم والتنازع الذي يستمد قوته من شعور الجماعات المهمشة بأن تاريخها مهمش وأن ماضيها يتعرض للإبادة.

يقول ميشيل فوكو إنه لا شيء أخطر من نظام سياسي يدعي امتلاك الحقيقة، وتأسيسا على ذلك نقول إنه لا شيء أخطر من نظام سياسي يدعي امتلاك حقيقة التاريخ ويخضع فعل التذكر لقانون الممنوع والمسموح. وفق هذا سيكون أمام المجتمع خياران: إما دولة بلا ذاكرة أو دولة بذاكرة مؤسسة على الإخضاع والإقصاء لتواريخ الآخرين، ومن هنا يجد المرء نفسه خيارا ثالثا يتبنى إنتاج ذاكرة تتجاوز هذين الخيارين؛ إنه خيار إنتاج ذاكرة التنوع القادر على بناء الدولة ومَعين ازدهارها.

يقول إرنست رينان إن الخطأ التاريخي عامل أساسي في خلق الأمة، وإن الإقدام على فتح الذاكرة الجماعية المثقلة بالجراح مجازفة غير محسوبة العواقب؛ ويضيف إن تقدم الدراسات التاريخية يشكل في الغالب خطورة تتهدد مبدأ المواطنة، لأن البحث التاريخي يركز على وقائع العنف التي حدثت في الماضي، بمعنى أنه يجب علينا أن نقدم قيمة التعايش والتوافق على قيمة الحقيقة التاريخية.

أقول هذا لأن جزءا كبيرا من النزاع في ليبيا يعود إلى كونه مرتهنا لذاكرة مثقلة بجراحات قابلة لأن تنكأ باستمرار.

مقالات ذات علاقة

من رذائل الفقهاء والدعاة

المشرف العام

إِبْـــــدَاعُ شَــاعِــرِ الوَطَــنِ: أحمد رفيق المهدوي.. وَقِصَّةُ القَطِيعَةِ الثَّقَافِيَّةِ بَيْنَ الأَجْيَالِ!

خالد السحاتي

ديالكتيكياتي (جدليات فكرية فلسفية) 4

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق