تقول عائشة الأصفر: “من لم يخبر واقعاً غير واقعه، لن يتسنى له الشعور بمتعة المقارنة “.
في مثل هذه الأيام قبل سنتين كنتُ أقرأ رواية الكاتبة الليبية عائشة الأصفر “اغتصاب محظية ”، وقد تزامنتْ قراءتي لها مع قراءتي لرواية أخرى هي “إله الصدفة” للكاتبة الدنماركية كريستن تورب، مما جعلني ــ لا شعورياً ــ أدخل في مقارنة بين الروايتين و لا أقصد المقارنة فيما يخص الموضوع بين ما تناولته الروائيتان، بل المقارنة من حيث الشكل أو الأسلوب، ففي حين كانت الكاتبة كريستين تورب تنتهج السرد الحكائي السلس وهي تُعالج قضية الشمال و الجنوب، قضية التُخمة الأوربية والجوع الأفريقي، قضية التفكك الإجتماعي والفراغ العاطفي عندهم، مقابل التشبع بالعلاقات الأسرية ــ حدّ التصدير ــ في المجتمعات الأفريقية، على الرغم من أن الكاتبة الدنماركية أبرزت في أكثر من موضع الإبتزاز الذي تعرضت له من قِبَل أفراد تلك الأسرة الأفريقية لتمكينها من ” شراء” إبنتهم، وأغفلت تماماً أيّ نقيصة للإنسان الأوروبي في هذا الشأن.. في نفس الوقت كانت عائشة الأصفر ــ كما بدا لي حينها ــ تتناول مواضيعها الشائكة والمهمة جداً في روايتها “اغتصاب محظية ” بطريقة أكثر تعقيداً، فيتداخل الزمان والمكان ــ أو لعلهما يتلاشيا ــ كما يتداخل التاريخ متماهياً حيناً ومتقاطعاً أحياناً مع كلِّ من مفهوم الوطن و السلطة.. وحين أكملت قراءتي للرواية وصفتُها بكلمة واحدة هي أنها “صعبة” … مما جعلني أتحين الفرصة لقراءة ثانية لها..
اليوم أنهيت القراءة الثانية لرواية “اغتصاب محظية ”، بعد سنتين من القراءة الأولى، و بعد أن قرأتُ الروايتين اللتين كتبتهما عائشة الأصفر قبل “محظية” وهما رواية “اللي قتل الكلب” ــ وهي الرواية الأولى لعائشة الأصفر ــ وتطرح فيها جدلية الروح و الجسد في حوارٍ شائقٍ بينهما، آخذةً القارئ إلى فضاءاتٍ ميتافيزيقيّةٍ بامتياز، وقد تناولت فيها قضيةً كبرى، هي قضية “سلخ الهوية ”.. أو استلابها..
و رواية ” خريجات قاريونس” التي أعتبرها رواية “الزمن الجميل ” بامتياز، حيث اقترن اسم جامعة قاريونس في مخيلة الكثير منّا بكلّ من الشعر والحب والفلسفة.. فجاءت هذه الرواية مجسدةً لهذا الخيال..بل يكاد يشعر القارئ أنه عاش أحداثاً منها في زمن ما.. في مكان ما.. فالحب شرقيٌّ.. وكذلك الشعر و الفلسفة.
ثم جاءت رواية “اغتصاب محظية” ممتلئة بالفنتازيا، و متوشحة بالفلسفة، و حبلى بالنبواءات، ولاعبة بالزمن، وفوّاحة بالتاريخ.
وقد استخدمت فيها عائشة الأصفر أيضاً تقنية “ازدواج الرواية” كما استخدمتها في الروايتين السابقتين.
في “اغتصاب محظية ” تقول عائشة الأصفر ــ وهي خريجة الفلسفة ــ ” علّمَني الجبل الشكّ في اليقين من أجل اليقين ” ص 27.
و تقول ” الروائي يسلطن أثناء سرده، وهو يعلو و يهبط بلغته الإيقاعية التخيلية، تماماً كما يسلطن الموسيقيّ مع ايقاعات المالوف، كما يُسلطن المُغني في شطحات الصوفية ” ص 77.
وتورد قولاً ربما كان نبوءة بشيءٍ ما ” الثوار أشدّ خطراً على الديمقراطية من الملوك ”!! ص 56.
و تقول أيضاً في أسطرٍ أشدّ ما نحتاجها الآن ” هذه أرضنا، واستمتنا جميعاً من أجلها، وهذه لغتنا القديمة، لكل منا ما يميزها، فلنا تمازيغت نفوسة، وكشكشة ربيعة و مُضر، وفحفحة هديل، وطمطمانية حِميَر، وعجعجة فضاعة، و شنشنة اليمن، وعنعنة تميم، وجميعها تلتقي. وكذلك ألواننا تجمع ملامح الأمازيغ، وحُمرة الجزيرة، وشقرة كنعان، وسُمرة النوبة، مُتسعةٌ ألواننا باتساع أرضنا..” ص79.
وتلعب عائشة الأصفر بالزمن لتمويه القارئ ــ وربما لتضليله ــ فتسمِّ الشارع والميدان بعدة أسماء لعصور مختلفة في نفس المشهد …
أمّا الفنتازيا فإنها تستحوذ على الجانب الأغلب والأعمّ في مشاهد الرواية، فها هو الأصبع المبتور الصغير الــ”زائد” يتحول إلى شجرة بعد أن نبت في الأرض مرتوياً بدمائه، وحين تكبر الشجرة تتحول لشجرة أصابع، ومن ثم، يتحول إصبع منها إلى إنسان بطريقة أخرى ….، بل هي تجعل بطل الرواية والراوي في نفس الوقت ذلك الاصبع الزائد في يد “بو ستة”.
مشهدٌ آخر يلعب فيه الخيال لعبته، وتتألق الكاتبة في رسمه بالكلمات، إنه مشهد الرقصة الكبرى والتي تتحول لمأساة عظمى حيث صوّرتها الكاتبة في خيالها بطريقة مدهشة لتتجسّد حقيقةً في خيال القارئ مُظهرةً بذلك قدرتها في حبك الفنتازيا و إخراجها.. ص 81 ــ 88.
مشهدٌ ثالث للفنتازيا يشعر القارئ من خلاله أنّ شيئاً مما يحتويه المشهد يسكن الكاتبة.. إنه مشهد جنازة الأب الذي يتراءى لبطل الرواية فوق الجموع التي تظن انها تحمله داخل النعش الى مثواه الاخير، فيراه ابنه منبثقاً من صندوقه فوقهم فارداً قامته، مبتسما، ومُلوّحاً بيديه الاثنتين ص 144.
فهل كان ذلك المشهد ارتداداً لتأثر فَقْد الكاتبة لوالدها في الواقع؟ تماماً كما كانت الجملة التي تقول فيها الكاتبة على لسان البطل:” في دوامة قوية ضمتنا داخلها وقذفت بنا في مكان واحد، فنقلتنا من ضغطٍ جوّي لآخر” ارتداداً لتأثر الكاتبة بقيادتها للطائرة في الواقع؟.. يبقى هذا التساؤل مجرد وجهة نظر.
وقد كان للتاريخ أيضاً حضوره في تلك الفنتازيا التي ملأت الرواية، وسأكتفي في هذا الصدد بالإشارة لمشهد لقاء البطل بولّادة بنت المستكفي في أحد متاحف “الأندلس”، والتي قالت أنها اختبأت في قصيدة لإبن زيدون وهربت إلى قلعة ومنها إلى المتحف، وقد دار حوارٌ بينهما يعبق بالتاريخ مع إسقاطات على الحاضر أرى أنّ الكاتبة نجحت في مزجه، ص200.
تستمرّ الفنتازيا داخل الرواية حتى نهايتها، ففي الصفحة الأخيرة من الرواية ترتفع “الجليلة” عن الأرض، وتخرج سابحةً من النافذة المُقفلة، 221… فأيّ خيالٍ يُمِدّ الكاتبة بكل هذه الصور الإستثنائية؟.
إنه الإبداع، فالإبداعُ هو الإتيان بالجديد، و غير المألوف. هو طَرْق أبوابٍ لم تطرقها يدٌ من قبل. هو السير في دروبٍ غير مُعبّدة، غير مُمهّدة للسير فيها، بل هي في غالب الأحيان دروبٌ مُخيفة،لأنّ أحداً لم يطأها.. ولم يمش فيها..
الإبداعُ هو ومضةُ البرق.. هو قدح الذّهن.. أو لعلّه الفكرة التي تُحلّق بك بعيداً، فتكتشف سماواتٍ غير السماء التي يراها الآخرون.
الإبداع هو تحرّرٌ من الواقع، بكلّ رتابته ,بكلّ تكراره، وبكلّ اعتياديته.
الإبداعُ هو الغوص في عمق الفكرة، لإستخراج “فُكيراتها” الفسيفسائية التي كوّنت في مجموعها الفكرة المنظورة للآخرين. الإبداعُ هو تخطّي التقليد.
الإبداعُ هو الإبحارُ ضدّ التّيار.. هو التغريد خارج السرب.. هو الذّهاب بعيداً بعيداً..عن “القطيع”.
الإبداعُ هو الفعلُ الصّادم.. هو القولُ الصّادِم.. هو الكتابة الصّادِمة , التي تجعل الآخرين منبهرين.. مشدوهين.. إعجاباً.. وغضباً..و ربّما حسداً..
الإبداع هو كلّ ذلك..
وكل ذلك تجسد في عائشة الأصفر التي رفضت أن تكون شاةً في قطيع.. فأعلنت العصيان على تابوهات الواقع الروائي.. هي باختصار امرأة من ذلك الركن القصيّ.. وجدت نفسها.. فانحازت لها، غير آبهة لحسابات الربح و الخسارة.
و طوبى لمن وجد نفسه.. فانحاز لها
أخيراً أقول.. أنّ عائشة الأصفر.. لا تكتب روايةً لنقرأها وينتهي الأمر..
بل تأخذُ بيد القارئ.. تُدخله في الرواية.. يسكنُها.. يتفاعلُ معها.. بل.. ربما وجد نفسه شخصاً من شخوصها.. فإذا ما انتهت الرواية، سقط القارئ أرضاً من بين صفحتها الأخيرة وغلافها..ليلتفت يمنةً و يسرة.. متسائلاً: في أيّ زمنٍ كان.. ومن أيّ مكان جاء؟؟!!
ثم ينفضُ ما علق به من أحداث الرواية، ويقفلُ عائداً إلى زمانه و مكانه.
لكنه هذه المرة يكون قد امتلأ بها.. بالرواية..
بعشرات الأسئلة والأفكار الفلسفية التي تدور في رأسه..
و بِكمّ هائلٍ من الصور و الأخيلة المنثورة وهي تنقرُ في قلبه..
و بِغيمةٍ من الشِّعر تُحلّقُ به عالياً..
فسلامٌ لتلك القديسة المعتكفة في محرابها، ولتجد لنا العذر في تسوّر ذلك المحراب بين الفينة و الأخرى، وسلامٌ لصمتها الفيروزيّ المهيب، الذي أضفى عليها هالةُ من الغموض ــ و ربما الفنتازيا ــ كتلك التي قرأناها في رواياتها الثلاث.
وبين هذا و ذا.. هنيئاً لنا بها مُبدعة.. و متميزة.. و رائدة.
3/فبراير/2017.