فاطمة عبد الله
يعد الليبي المهدي الحمروني واحدًا من الشعراء المتميزين، ذلك أنه لا يكتب من متشابهٍ قدر ما ينهل من متفردٍ، عبر قاموس خاص يضم ألفاظًا عليها بصمته وحده.. وأفكارًا تبدو بسيطة هادئة تشف عن عمق، وأخيلة مميزة في غير تعقيد.
ويأتي ديوانه الثاني (محيا راودته الآلهة للنبوة) خير ممثل لقاموسه المغاير في استخدام اللغة وتراكيبها المتعارف عليها؛ فمن العنوان نجد أنه أكسب الفعل «راود» معنى التهيئة والتجهيز باقترانه باللام، بينما في الأصل القاموسيّ الفعل متعدٍ بحرف الجر «عن» ليفيد معنى «الإغراء والدعوة للفجور»، وإذا ما تعدى بحرف الجر «على» يفيد المناقشة والمراجعة، كذلك المفارقة التي يصنعها بكسر توقع القارئ: فالمراودة تستدعي شيئًا مغايرًا تمامًا لمعنى النبوة.
هكذا.. ومنذ العتبة الأولى للديوان ـ العنوان ـ يمهدنا الشاعر لتلقي نص مغاير، يتناول الـ«هي» بكل مدلولاتها: الأم، والابنة، والصديقة والحبيبة والوطن والملهمة، إلى أن يجد نفسه قد أجهز على كل الأناثي، فيخلص في مجمل الديوان للـ«هي» القادمة من البراح واللا متناه، وهنا يجد أن اللغة المتعارف عليها لا تتسع لوصف «أنثى الهيولى»؛ فيلجأ إلى ما يمكنني تسميته بـ«الاقتراض اللغوي»، حيث يقتبس من الكتب الدينية: الإنجيل والقرآن وبعض الأحاديث النبوية؛ ومن قاموس المتصوفة؛ ألفاظًا وتراكيب يستعملها في مستويات مقامية مختلفة، يضمر فيها الخطابُ المقام، لتتناسب قدسية اللغة المستعارة مع مقامات تقديس هذه الأنثى، كما تنتظم ألفاظه وصوره وأخيلته في عقد واحد، يهلل لها «هللويا» ليتسق الهتاف والابتهال مع الحال الأقرب للمد الصوفي.
*
وتتجلى مهارة الشاعر في إدراك جودة التركيب المنطقي للغة التي يستخدمها أو يقترضها من عوالم روحية، ليعبر بها عن مفردات حياتية تنتمي لعالم الماديات، أو يوظفها للتعبير عن أحوال روحية، فعلاقة المنطق باللغة تبدو واضحة، فإن كان علم النحو يعطي قوانين تخص ألفاظ أمةٍ ما، وكان علم المنطق يعطي قوانين مشتركة تعم ألفاظ الأمم كلها، إلا أن هناك علاقة وطيدة بين المنطق والألفاظ حيث ترتكز العلاقة بينهما في التركيب، ومن ثم تبدو لغة منطقية، وهذا ما أجاد الشاعر توظيفه وفق سياق يمهد القارئ لاستيعاب خطاب بلغة تخالف تلك التي كان يتلقاها من قبل، وهنا يتقبل بعض المبالغات لأنه يراها ـ وفق المنطقية التي انتظمتها لغة الشاعر وتراكيبه، ووفق سياق يعتمد الثنائية التوفيقية لا الاستبعادية ـ بنيةً حواريةً اختلافيةً وليست بالضرورة بنية مونولوجية اتفاقية، بين المرسل/ الشاعر، والمستقبِل/ المتلقي، باستخدام اللفظ في أكثر من معنى، مع الاستعانة بالقرائن في تحديد المقصود، وذلك مرده كله احترام الشاعر لقارئه، مقدرًا دوره الذي يمنح النصوص حياتها وشروط بقائها.
*
كذلك تأتي بعض عناوين النصوص مثالاً جيدًا يدل على صنعة فنية يُختص بها الحمروني، ويمهرها ببصمته؛ فعنوان نصه (في صوغ المكيدة) ـ كمثال ـ يفتح للمتلقي عالمًا من سؤال حول المحذوف قبل حرف الجر، وكأن العنوان يوهم ها هنا أنه إجمال واضح لتفصيل مبهم، غير أن القارئ كلما انقاد لجذبة النص يكتشف أن العنوان مكيدة؛ إذ يتجلى عبر النص أنه كان إجمالا لتفصيل يتأتى من العوالم التي يقدمها الشاعر لقارئه، كشِراك تجعله يقف حائرًا بنشوة بين الالتباس والتجلي.
تمثل الألفاظ في هذا النص بوابات يعبر بها الحمروني بمتلقيه من خارج (المعنى) إلى داخل (الحال)، ومن (المحسوس) باللفظ إلى (المجرد) بالوقع والأثر:
لا زلتِ من يُغيّر طقس النهار لهجرة التحليق
بمكرٍ ملهمٍ في صوغ المكيدة
ولا زلتُ في حالةٍ مبهمةٍ من الدهشة والتصوف
على انتظار طفرةٍ عظمى من الوحي في مقامك
الكلمات تترنح إلى برزخ اعتكافك
سيهبها تجليك أجنحةً للتهويم والجذب
واستقامة في مدّ الترانيم والإنشاد
لتوثق حلقاتها في ذِكْرك المنتظر
*
يمتلك المهدي الحمروني خيالاً نشطًا قادرًا على صناعة الصور، وإعادة طرحها بعد أن يفض روابطها الواقعية ويُدخلها عالمًا تصوريًا جديدًا، تنحاز فيه للتجريد المحمول على رؤية ورأي، فيما يشار له في البلاغة بالأسلوب المجازي القائم على المقاربة والأوصاف المشبَّهة. وإن ما يمنح الطبيعة إجرائية لمقابلة الضدية «تشبيه/ تنزيه»، هو الكيفية التي يخترق بها الاثنان المسافة الفاصلة، فيعمد «التشبيه» إلى حركة مقاربة كفيلة بإلغاء المسافة، في حين يقوم «التنزيه» بإبعاد ما يفصل، مؤسسًا لهذه الـ (هي) في غيبها الهيولي، بشكل غير قابل للتعرف أو الإدراك، فلا يحار القارئ في البحث عن الذات المخاطبة، إذ يقدمها الشاعر كعالم حاضر بأثره، مما يكاد ينفي الإشارة إليها بضمير الغائبة، وذلك عبر الثنائية الضدية بين («الأنا» المُغيَّبة والـ«هي» الحاضرة).
*
يمهر الحمروني في صناعة الدهشة باستخدام وسائط غُفل.. فيصنع نصوصه بتناسج متكامل، متماسك البناء، من هذا الهيولي من ألوان شعور وأوراق فكر وصور خيال وأشكال، ليس بينها ما يجمعها في كلٍ متناسق، وكأنه يكاد يحاكي فعل الطبيعة في إرادتها وقدرتها على إعطاء الهيولي صورًا تكاد تتجسد بالفعل، وذلك وفق نظام ينتج عن إدراكه كشاعرٍ واعٍ لكيفيات البناء، من تناسق وانسجام، ومن سوق ألفاظ وعبارات وتراكيب وأخيلة وأفكار، تحتوي بدورها على طاقات بنيوية:
أنا حيرة الشوق إلى هديك
كلما تقفين كراهبةٍ حرّمت النظر إلى الماء
خشية أن تُفتنَ بمحيا راودته الآلهة للنبوة
وزهِدتِ فيما ادّخرت الينابيع من أنهرٍ لقداسة وضوئك
أحبو بلا حول
وأزحف بلا قوة
مبهمًا من ذهول الاصطفاء
شاردًا من صدمة اللقيا والوصول
تعكس نصوص الديوان صورًا بصرية إلى حد كبير، يرفدها المهدي الحمروني كفنان شاعر بمتغيرات جديدة، تماثل رحلاته الكشفية، فلا يقدم فروضه الخاصة لرؤية العالم، وإنما يقدم به تجربة شعرية واعية يديرها بعقل مبدع واعٍ، رغبة في تحمّل حلم قيادة الحياة عبر الشعر، وتمثلاً لروح مقولة (الرؤية من دون تجريد عماء، والتجريد من دون رؤية خواء).
لذلك يأتي ديوانه بمحيا أنثى الهيولى الذي لا يظهر دون ألوان إلا في صورة بالأبيض والأسود، لكنه ها هنا أصبح وجهًا لغانية بجمالها، ليتأمل المتلقي هذا المحيا المتفرد دون ألوان لأنه أبهر من تشكيلها.
وربما هذا ما جعل النصوص في منطقة تشبه في التصوف الوقوع بين مقام التجلي والالتباس.. وهو أيضًا ما يفتح باب التأويل نحو جماليات النص، حيث المخاتلة بين التقريرية والموسيقى الداخلية، وبين الإيضاح، وهذا صنيع شاعر يجعل قارءه يستمتع بقدرته على غواية ملاك، واستجلاب صوته في الشعر والموسيقا.
وعلى ذلك تتجلى الـ«هي» دوما في موكب من قدس أقداسها، تمنح وترفع، وتتنزه عمن ـ أو ما ـ يشابهها.. ومن ثم تستفز «أنثى الهيولى» الشاعر لاستخدام مفردات قد لا تمنح معانيها السابقة.. بل تملك المِقوَد فتوجّه المهدي نحو قاموس تختاره هي لحياكة المعنى، فتظهر النصوص دائمًا بجماليات اللغة وأصدافها واشتقاق مفرداتها، مع الحرص على التجديد في الصورة في كل سطر تقريبًا، لتثبت أن صانع النص لم يتخلَ عن أنثاه القادمة في موكب ربات شعر يصدحن حولها بـ «هللويا.. فأنثى الحمروني قادمة».
*
الشاعر ينتبه كثيرًا إلى إخراج النص من حيز التصوُّر والوهم إلى حيز الإنجاز، من خلال تضفيره عناصر خارجة عن النص كالمتكلم/ الشاعر، والسامع القارئ/ المتلقي، والسياق، وهذا ما يجعل النصوص في اصطلاح المقام والموضع، وهو مقام يُولي فيه الشاعر ظاهرة التلفُّظ عناية كبيرة، تحدد خصائص النصوص في كثير من الأحيان من زاوية تلفّظه وضبط هوية القصائد بمتلقيها وسياقها، وهو بهذا الصنيع إنما يراعي منزلة السامع والقارئ ومستلزمات المقام، إذ أن الكلام يتنزل في مقامات كما أن الناس طبقات ـ كما يقول الجاحظ ـ وبناء عليه فتلاؤم الحديث وملابساته مع نوع اللفظ عنصر مهم؛ فليس للنص ـ على هذا ـ أطر بلاغية ثابتة، فالبلاغة بلاغات، والفصاحة فصاحات، عبر الاهتمام بالسياق في تأصيل النص ليجعل هناك ترابط بين النقائض: فالإطالة بلاغة والإيجاز والتكثيف بلاغة، وهذا ما يمكننا تسميته بـ «النص النفعي»”، أو بـ«نفعية الخطاب الشعري» بمعنى أن الجميل في النصوص ينبع من النافع، (حمل الكلام على الإفادة خير من حمله على الإعادة).
*
رغم أن كثيرًا من النصوص تبدو للوهلة الأولى وكأنها تعمُد بالمهدي إلى قصدية مسبقة على صنع القصيدة، واقتفاء أثر كل لفظ يمكن أن ينتمي لحقل لغوي واحد (الملائكة والعرش وقدس الأقداس والوصيفات والحور العين والبرزخ…) إلا أنه لم يَنْسَق لزهو اللغة، بل اتّبع حسه الداخلى، وانحاز للمعنى أكثر من الانحياز للإطار الذي يضمه؛ فأتت القصائد سلسة في معظمها.. مفرداتها متميزة رغم أن بعضها يكاد يكون مهجورًا، أو لا يُعرف معناه إلا بالرجوع للمعجم، وكأن الشاعر يستعرض قدرته على مد كفه لأعمق وليغترف لقارئه ماء متجددًا.
إلا أن إعمال حاسة التأمل تكشف نتائجها أن لغة مجمل الأعمال منتمية لعصرنا، وتُشهدنا استمتاع الشاعر شخصيًا بالانقياد قليلاً لتيار الحالة؛ يوجهه لضفاف يختار منها قطافه المُمجِّد للأنثى، حتى ليجعل كل امرأة أخرى تتمنى أن تقوم بفعل الإزاحة؛ لتحتل هي هذه المكانة المقدسة في حياة رجل! فما من امرأة منهن لا تشتاق أن تكون مقدسة، يتهيأ لها قلب رجل، ويتطهر قبل الدخول لقدس أقداسها!
*
هكذا يقدم المهدي الحمروني بضاعته الضواعة، عبر مفردات اللغة الشعرية والتراكيب المسكوكة والممهورة بختمه المميز والمغاير، لصوغ عالم من الصور يتخلّق منها صُلب القصيدة الشعرية؛ فتعج بالحركة وتنبض بالحياة، وفق منظومة تخييلية تقف بالقارئ إزاء عالم متخيل قُدَّ من كلمات، وتجعله يستقبل كمًّا من صور تمثل الأساس المتين لشعرية النصوص، من خلال تلبُّسها الواقعَ الجمالي حتى ألغت الحدود بين الواقعي والمتخيل، بين الممكن ومُقابِله المحال، وبين المنسيّ المحجوب والمبتَكَر المتذكَّر، إلغاء يجسد براعة الشاعر في تشكيل صورة رمزية لأنثى الهيولى، صورة مفارِقة وموزَّعة بين الحقيقة والوهم، بين إفراط يركن إلى التخييل فيعرَى الحدث عن التوثيق، وبين تفريط في مطلب الصدق وحدّته، لأن أعذب الشعر أكذبه، وهكذا يقدم لنا المهدي الحمروني بضاعته التي تمثل «السحر الحلال».