المقالة

كان يوما مختلفا

من أعمال التشكيلي القدافي الفاخري
من أعمال التشكيلي القدافي الفاخري

في ذلك الشتاء، اشتعل فتيل الوجد، وفي يوم من الأيام، وجدنا أنفسنا نتحدث عن الوقت والمشاعر.. وقالت: “أتساءل أحيانًا لما لم نفصح لبعضنا البعض في كل لقاءاتنا السابقة”، متطلعاً إلى الأمام بينما كنا نتمشى.. وجدنا مقعد خشبي على قارعة طريق الشط.. جلسنا نتأمل التدفق الليلي للعاصمة طرابلس.

فتاة رائعة مثقفة ترتدي فستان وردي توشحه ازرار خشبية نافرة، ومعطف احمر يلف جيدها الرخامي، واصلنا سيرنا وأخذتني في جولة بحواري وأزقة طرابلس القديمة، وعند احدى المقاهي توقفت.. وقالت هذا هو المكان المناسب.. هذا المقهى يقدم أفضل برجر في المدينة.. الجبن والكمية المثالية من المايونيز.. كانت كلماتها اشبه بالالغاز.. برجر.. مايونيز.. قلت لها انا القادم من فزان اشتهي “قصعة فتات ميدوم بالتافريته تجريعة لبن ماعز بالركينه” او حتى بازين بلحم الحوار.. ولكن يبدو ان هذا ما لا تقدمه مقاهي المدينة.. لم تخفي قهقهة من الاعماق.. واردفت: جرب البرجر هذه المرة.. لحم الحوار عندما تكون في مجالس حوارات المصالحة “ولمة شيابين اعيان وحكماء”.. نعم اصابتني في مكمن “فلا حوار بلا قصع بازين.. ولا طعم للبازين بغير لحم الحوار “.

المقهى عند حي باب البحر شمال المدينة القديمة، مقابل شارع الفرنسيس.. جوار قوس الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، الذي حكم في الفترة بين عامي (161 – 180).. الأثر الروماني الوحيد المتبقي بالمدينة.. وأعدادا لا باس بها من السياح القادمين من فزان وبرقة يتأملون فن الهندسة وينتشون عبق التاريخ.

تبادلنا أطراف الحديث عن التاريخ والجغرافيا وفزان البعيدة، والطرق المهتمة، والسفر برا، واوضاع الناس العالقين هناك، وقالت فيما قالت.. اخبار فزان غائبة عنا هنا في العاصمة.. وقدمت لي نصيحة لصحفية مرموقة: ” طالما انت من فزان ينبغي ان لا تكتب كما لو كنت من باريس.. اكتب ما تعرفه وما تحبه وما تخشاه.. دع الناس يرون العالم من خلال عينيك، وليس من خلال الشخصية التي تريد أن ينظر إليها.. لكل كاتب أسلوبه الخاص، بصمته التي هي توقيعه.. ولكل كلمة روح وحياة خاصة بها.. وحبذا اضفاء مسحة من شاعرية غنائية كلما كان ذلك ممكنا، مع تماسك عقلاني وعمق يثير التفكير.. كن مطرا وبرقا.. ونهرا جارف يتدفق.. ولا تنسى ان كل شيء يمكن أن يكون علاجا، يمكنه ايضا أن يكون سما.. واختصر الكلام قدر الامكان.. كتب تشرشل ذات مرة رسالة طويلة لصديق.. ارفقها باعتذار قائلاً: “لم يكن لدي الوقت الكافي لجعل خطابي قصيرً “.

في بعض الأحيان، يكون الأمر جميلاً عندما يكون لدى شخصين مشاعر تجاه بعضهما البعض ولكنهما لا يعترفان، ويطول امد تفجر الوجد المحتشم.. ورغم الاشتباكات الدائرة وبالاسلحة الثقيلة جنوب العاصمة.. كان يوما مختلف.

مقالات ذات علاقة

ذكريات طرابلسية (3)

مهند سليمان

أين ليبيا التي عرفت؟ (4)

المشرف العام

الطريق إلى كابل

حمد المسماري

اترك تعليق