المقالة

أسرار العمل الفني

سلسلة: الصورة والخيال

5 – أسرار العمل الفني

من أعمال التشكيلي رضوان أبوشويشة

لقد تمكن الفن الحديث والمعاصر من التخلص من فكرة المحاكاة La mimèsis – μίμησις الموروثة عن الثقافة اليونانية، التي درسها إفلاطون في الجمهورية ثم طورها أرسطو فيما بعد. رغم كون ذلك خطوة جبارة في تطوير الفنون وتقدمها ومكنها من التحرر من التقليد ومحاولة إعادة خلق ما هو موجود ومرئي في الطبيعة بطريقة إصطناعية، غير ان ذلك أدى في نفس الوقت إلى سقوط الفن في غياهب ظلمة فكرية وتشوش نظري وإبتداع آلهة وانبياء وديانات جديدة، وأدى إلى خلق سلطة روحية من نوع جديد، سلطة لا حدود لها، ومنحها لمفسري الفن ومنظريه من كل نوع، وخلق دينا جديدا بكهنته وأحباره وشيوخه ومعابده في جميع عواصم العالم المتحضر. وأدى خلق هذه السلطة الفنية، والمكونة من النقاد الفنيين والمثقفين والفلاسفة والشعراء والمشتغلين بالفنون التشكيلية، أي الفنانين انفسهم، بالاضافة إلى اصحاب صالات العرض ومديري المتاحف والمسئولين السياسيين عن الثقافة، إلى خلق هوة عميقة بين الفن والحياة وبين الفن والمشاهد العادي الذي لم يستطع ان يتجاوز مرحلة المحاكاة ولم يستطع – حسب نظرة هؤلاء النقاد- الوصول إلى اسرار الفن ومعانيه العميقة والغوص أبعد مما يراه ويسمعه. فنلاحظ هذه النظرة الغيبية للفن بوضوح اكثر حدة، فيما يتعلق بالفن التشكيلي، حيث نشاهد ظواهر غريبة في مجال النقد، أذ يتكلم الناقد احيانا مثلما يتكلم العرّافون، الذين يتنبأون بما يخبئه المستقبل، فيفسرون معنى الألوان والأشكال، ويجعلون “اللوحة” تنطق وتبوح بسرها كما يفعل المشعوذون الذين يحركون الطاولات، ويجعلونها تتحاور مع البشر بأية لغة يشاءون. ذلك ان اغلب النقاد يعتبرون الفن لغة يجب اكتشاف وتحليل شفرتها، وترجمتها إلى لغة الكلمات، أو في احسن الأحوال يجعلونها رموزا يجب تحليلها مثل الأحلام، ويستعملون في ذلك ادوات الإنشاء الفرويدية وغيره من مفسري النفس البشرية وابداعاتها. وهذه القطيعة بين الفن والمجتمع ترجع بالدرجة الأولى إلى إعتبار الفن لغة دلالية، أي أن العمل الفني يقول شيئا ما يجب إكتشافه والبوح به بالكلمات والجمل أي باللغة الكلامية. ونحن نعرف اليوم ـ ونستطيع ان نؤكد ـ بأنه لا يوجد وراء اللوحة سوى الحائط الذي يسندها والمسمار الذي يشدها إلى الحائط، وكل ماعدا ذلك هو من السحر والشعوذة الفكرية، والتي لا تقود إلا إلى المزيد من التعمية، وتعميق الهوة ـ العميقة أصلا ـ بين المشاهد والفن، واغراقه في الخطأ الأساسي، وهو محاولة ايجاد الرسالة المخبأة وراء الألوان والخطوط والأشكال. وبهذا القول لا نعني انه لا يوجد أي معنى او رمز أو دلالة لأية لوحة او أي عمل من الأعمال الفنية، بل نعني بان هذا المعنى او الرمز ـ إذا وجد ـ فإنه ليس له علاقة مباشرة، او داخلية بالعمل الفني ذاته، فنحن لا نحب الأشياء لأنها جميلة، ولكن الأشياء جميلة لأننا نحبها كما يقول الشيخ سبينوزا. المتحف أو المركز الفني لا يحتوي داخل صالاته كل هذه الأعمال واللوحات الفنية لأنها أعمال عظيمة وجميلة أو لأنها تحف، بل هذه الإبداعات عظيمة وجميلة وتعتبر تحفا لأنها توجد داخل محراب المتحف. فهذا المكان، كالمعبد هو الذي يضفي صفة العظمة والقدسية على كل ما يحتويه داخل جدرانه. البعد الجمالي، أو الحكم على جمالية العمل الفني هو بناء وتركيب بعدي، وليس من خصائص العمل الفني جوهريا، إنه يتعلق باللوحة وبالمشاهد معا وتفاعلهما مع المكان الذي يتواجد فيه العمل الفني، انه مجرد “علاقة” او اضافة ثقافية اجتماعية، تلتصق بالعمل الفني من الخارج، كعنوان اللوحة، وسعرها، وتاريخها، وتوقيع الرسام، الخ. إن الفنان حين يبدأ في رسم لوحته، لايضع خطة جهنمية لإخفاء مايريد قوله، إنه لا يرسم اسرارا، إنه فقط يقوم بعمله حسب احاسيسه، وقواعده، وقوانينه الداخلية، وحسب المعطيات المادية المتاحة امامه، ولا يستطيع هو ذاته تنظير عمله علميا بطريقة لغوية. إنه لا يستطيع ان يتجاوز حدود اللغة، كما لا يستطيع ان يتجاوز حدود اللوحة. فاللغة حدودها الدلالة، بينما الرسم والفن عموما، هو مسرح الخيال، أو المخيلة. وهذا لا يعني عدم وجود الخيال في الكتابة مثلا، فالشعر والرواية والقصة والمسرحية تنتمي بدورها إلى عالم الصور والخيال.غير ان الوسيلة المستعملة “لفتح” لوحة ما، غير الوسيلة المستعملة لفتح رواية او قصيدة شعرية. المفتاح يختلف اختلافا جوهريا، ولا نستطيع حتى ولو كنا سحرة، ان نفتح عملا فنيا كاللوحة، بمفتاح اللغة، لا بد من استعمال العين والبصر والرؤية المباشرة للوصول إليها كعمل فني. وفي نفس الوقت لا نستطيع ان نفتح قصيدة شعرية، بمفتاح الخيال مباشرة، ولا بمفتاح البصر والرؤية وحدها، فلا بد من المرور بمحطة جديدة هي محطة الكلمات حتى ندخل عالم الخيال الشعري. رغم وجود بعض التجارب المعاصره التي تحاول ان تتجه في هذا الاتجاه، أي إلغاء محطة اللغة والوصول إلى العمل الفني مباشرة، حيث تستعمل الكلمات كأشكال بصرية أو صوتيه، وتحاول التخلص من دلالة الكلمات قدر الإمكان، مثل تجارب الشعر الصوتي والشعر البصري التي تنحو هذا الاتجاه دون نجاح كبير في البداية، لسبب تقني بسيط، هو عدم قدرة هذه التيارات التخلص من فكرة الكتاب كوسيلة لنشر هذا النوع من الشعر، ولكن اليوم أصبحت هذه التيارات تتطور وتنتشر بسرعة كبيرة في العديد من العواصم الأوربية لوجود إمكانيات تقنية أكثر مناسبة لهذا النوع من الإبداع والذي ما يزال يسمى شعرا، مثل الكمبيوتر والفيديو والسينما والمجال السمعي البصري عموما. ولكننا مع ذلك نعرف أن الأعمال الفنية تختلف عن الصناعات الأخرى، ونعرف أيضا أن أي لوحة لروتكو Barnett Newman أو نيومان Mark Rothko ليست مجرد مسطح من الألوان المرتجفة مع الضوء، هناك شيء ما يجعلنا نتوقف أمام الخطوط والألوان والأصوات وننتقل بطريقة سحرية من عالم المشاهدة العينية الواقعية، عالم الإدراك، إلى عالم آخر هو عالم الخيال، وعندما نزيح أنظارنا عن اللوحة فإننا يبدو كأننا نستيقظ من أحد أحلامنا، فما هو إذا هذا الشيء الذي يضفي السحر على الأشياء التي بطبيعتها مجرد أشياء مادية عادية؟

مقالات ذات علاقة

الكاتب الليبي أحمد التهامي وتقنية تعلم الكتابة

المشرف العام

أدوار….

سمية أبوبكر الغناي

الرابح يبقى وحيداً

مهدي التمامي

اترك تعليق