أن تكوني معلمة …
الصديقة المبدعة “انتصار أبو راوي”، تريد من كاتبة هذه السيرة، تريدها ان تواصل السرد، ذلك السرد لآنه يناقش ويستفهم عن (حوا) التي هي الآن صارت معلمة والتي جاء تعيينها الثاني بعد إلغاء الأول، كان بتاريخ (12/12/83)، ولكن لن تعود إلى المدرسة القرآنية بل ستكون في مدرسة البنين التي هي المدرسة التي تعلم بها خمس من أخوتها، بعضهم تحصل على الاعدادية والبعض الابتدائية، وأصغر الاخوة لم يدرس بها، إذا هي مدرسة ابتدائية وإعدادية، معلمة احتياط ثم معلمة الصف الرابع مادة الحساب.
ليس هينا أن تكون أول تجربة في التعليم هي للصف الرابع ابتدائي، حيث النحو الذي يتعرف عليه التلاميذ والتلميذات والكسور العشرية في الحساب، وأعترف أني لم أفهم الكسور العشرية جيداً حتى واجهت تجربة التعليم، أن أجعل تلاميذي بالصف الرابع يفهمون الكسور العشرية، وكيف أستطيع ايصال المعلومة إليهم إذا كنت عاجزة عن فهمها؟ ولكن أنا معلمة! وهكذا جلست لأفهم هذه الكسور وأعطي دروسها، وكنت قررت ألاّ استعمل العصا، أي أسلوب الضرب ولكن من كنّ حولي أقنعوني بجدواها، ولأعترف أنها أجدت نفعا مع أحد التلاميذ مازلت أذكر اسمه “عثمان”، كان ذكيا ولكن مشاغبا ومهملا أو كسولا، لا يكتب الواجب وفي التطبيق يترك مسائل بلا حلها بدعوى الوقت، ولكن ألاحظ كيف يشاكس وينظر لزملائه بدلا من الاهتمام بالحل في كراسته، وقررت استعمال الاسلوب التقليدي، و قد فوجئ هو بالعصا التي انهالت علي يديه الصغيرتين، لأنه لم يكتب الواجب ولأنه ناكف الذي بالمقعد معه، وبعد أسبوع جاءت النتيجة، كراسة مرتبة والواجب منظم وحلول صحيحة ثم التطبيق الذي تحصل على درجته النهائية، والنتيجة هذه أسعدته أكثر مني، و مازلت أذكر تلميذي الذكي “عبد الرحيم ……” لم أنسَ لقبه، وكان بيننا مشادة، ههههه معلمة مع تلميذ وجاء أخيه ليتساءل عن المشكلة، ووو هذا التلميذ الذكي في الحساب وكافة المواد والذي كنت أتوقع له مستقبلا علميا حافلا، بأنه يناقش ويستفهم لا يكتفي فقط بالحفظ، هذا التلميذ في عام 2001 وجدته (سواق افيكو)، وحين سألته عن مسيرته التعليمية أخبرني أنه اكتفى بالثانوية لأن ظروفه المادية لم تسمح، لا أتذكر هل لوفاة والده أم فقط انه من أسرة فقيرة، فاضطر للعمل.
إذا العام الأول لي كمعلمة كان العام الدراسي 1984م، وتلاميذي كانوا أغلبهم من مواليد 1974م، وجاء العام الدراسي التالي 1984/1985، وكانت مادة العلوم هي المادة التي أسند إلى جدولها.
معنى أن كانت حواء جريئة ومتمردة…؟؟؟
حين منحوني جدولا دراسيا، منحوني دولابا او جزء من دولاب (فردة) لأضع فيها كراسات تلاميذي التي يكتبون الامتحان بها، وأيضا كراسات الواجب لتصحيحها، ولكن (حـواء)، التي مازالت تبعث بمقالات لصحيفة الجماهيرية ومازالت تواصل التهام الروايات والكتب، جعلت من هذا الدولاب منبرا لتكتب أقوالا وآراء تقتبسها أو تكتب ما يعنّ لها، والغريب أنه لم يناقشني أي احد من الإدارة أو الإشراف، ربما لأني لم أكتب شيئا يخلّ بالثوابت أو بالنظام، فقط ذات مرة كتبت جملة اعتبروها حادة وتمّ مسحها، وأيضا إيصال تحذير خفيف عبر أحد المعلمات، الآن أفكر في عدم تنبيهي أو لفت نظري لعدم الكتابة على الجزء الخاص بي من الدولاب، ربما اعتبروني من (اللجان الثورية) لأني أنشر في صحيفة تصدر عنهم، ولأني تحادثت مع معلم زميل كان في المثابة الثورية بالمدرسة، وأظن طلبت منه أعدادا من صحيفة الجماهيرية، العبارة التي أزعجتهم هي (يا أشباه الرجال ولا رجال).
لا أتذكر باقي البيان الذي دوّنته على دولابي المدرسي، ولكن الأستاذ المكلف بالإدارة بالفترة المسائية التي كنت من معلماتها، عاتبني بشكل مبطن، لانتبه لحديث دار بيني وبينه؛ حين ناقشته كيف يجعل معلمة تغيب عن الدوام الدراسي لمدة خمسة عشرة يوما، ثم تجيء لتوقع حضورها في هذه الأيام، قال لتبرير هذا الفعل (همّا فلوسنا رايحات رايحات….)، وفسر عبارته أن (القذافي يعاون في الدنيا كلها، ما صار شي لو معلمة غابت مع راجلها، وخدت مرتبها كامل). وأيضا الآن وأنا اكتب أفكر (إن شاء الله كتابتي تلك لم تخفه رحمه الله تعالى وغفر له)، للأسف صار هذا جاريا وعاديا (فلوسنا رايحات رايحات) والبعض يبرر (هذا أقل من حقنا في ثروة بلادنا)، ودائما نقاشي مع هذا التبرير أن هناك من يعمل أو تعمل بوظيفة و يجيء يوميا ويؤدي عمله وأحيانا لظروف يغيب فيقتطع من راتبه، بينما الذي بنفس الوظيفة وحتى المكان ولكن اسمه فقط موجود بالسجلات ويأخذ راتبا كاملا غير منقوص، واحدة من طالباتي التقيت بها بعد تخرجها من كلية ما، وتحصلت على تعيين بالواسطة في مكان يديره قريب لهم، واخبرتني أنها لا تذهب وتأخذ في راتب وحين تساءلت قالت: (ما هو الشيخ قالنا مش حرام هذا رزق بلادكم….؟؟؟؟).
عيد الطفولة وعيد المعلم …
كأي مجتمع ستبرز على السطح مظاهر جديدة، فجأة تنبثق تطفو وتصبح عامة، رغم أنها بدأت من أشخاص ولكنها تصبح مظهرا عاما، في تلك الاعوام (والملاحظة المهمة كانت بداية تأنيت التعليم الابتدائي والإعدادي) صار الاحتفال بأعياد الميلاد مظهرا وحتى رأس السنّة، وسادت فترة في أغلب المدارس تبادل الهدايا بين التلاميذ ومعلماتهم.
و المجتمع الذي يحيط بمدرستنا في أغلبه لا يعرف إلا مناسباتنا الدينية، وأيضا لأنه مظهر جديد وغريب أن يجيء تلاميذ بهدايا للمعلمات، ولكن حدث هذا في عيد المعلم 10مارس منحنا بعض التلاميذ هدايا بهذه المناسبة، بعضهم الذين أسرهم ميسورة وأيضا نسبة المتعلمين فيها كبيرة، وجاء عيد الطفل، ومازلت أذكر ذهبنا للسوق المجمّع واشترينا هدايا تناسب الهدية التي قدمت لنا، مازلت أذكر بوجع، كيف ننادي التلميذ الذي منحنا هدية لنقدم هديتنا، وقد يتحصل تلميذ على أكثر من هدية لأنه جلب هدية لكل معلمة، هل تتخيلون الأذى في هذا الموقف… يحظى تلميذ بعدة هدايا في عيد الطفل، وآخر لأنه لم يتمكن ماديا أو لأن أسرته تعتبر هذا شيئا غريبا، من تقديم هدية، يعود في يوم الطفل العالمي مكسور القلب محروما…؟؟!
أي بشاعة عشتها ومارستها ضمن القطيع، أنا التي تدّعي التمرد أذعنت…؟
عودة للعام الدراسي الأخير ….
ذكرياته مكتظة ومفعمة وربما لهذا غفلت عنها، ولكن وأنا أكتب عن بداية حكايتي كمعلمة تذكرت، كانت مادة المناهج والتربية العملي، حيث نذهب للمدارس في اقتراب نهاية العام الدراسي تقريبا في شهر مارس، تبدأ التربية العملي من الصف الثالث معهد، وقد عدت لمدرستي التي عشت فيها العام الأخير من الاعدادية، عدت طالبة/معلمة وفي إذاعتها المدرسية وجدت بنتين رائعتي الجمال، جمالهما يتمايز، شقراء بعينين واسعتين بلون البحر وشعر أصفر تسرح ضفيرته عابثة، و سمراء بجمال لافت وأيضا بضفيرة طويلة عابثة، ولكن لشعر أسود، هذه السمراء ستغدو ممثلة وتتخذ اسما آخر، اسم سنعرفه بها هي (هدى عبد اللطيف).
كان أستاذي المشرف من مصر وهو أستاذ الفيزياء، وأيضا مشرفي في هذه الفترة التدريبية ولتلميذات الإعدادي، وأشهد أني أرهقته لأني لا أجهز الدرس مكتوبا في كراسة تحضير، يثني على أدائي ويحذرني من تسيبي في إعداد الدرس مكتوبا، ولا يخلو الأمر من موقف مع تلميذات مشاغبات يتغامزن علي طريقة ارتدائك لثيابك، لونها أو أو، أو أحيانا هكذا شغب يلازم بعضنا حين يكون صحبة مجموعة، كنت أكتب عنوان الدرس، والتفتت لأجد ثلاث وليس واحدة يتغامزن ويشرن بإشارات تضحك باقي الفصل، لم أرتبك شرحت الدرس وقبل نهاية الحصة جاء تعليقي الذي جعلهن يركضن ورائي للاعتذار. وطريقة تعاملي مع هذا الموقف، جعل أستاذي المشرف يثني على معلمة/ متدربة (طولها شبر ونص)، نعم تعاملت بثقة مع تلميذات ثالثة اعدادي أطول مني، ولايفصل بين عمري وعمرهن سوى خمس سنوات.
ومن الذكريات التي لن تنسى هو في الصف الرابع معهد، حين كانت المشرفة أستاذة رياضيات وأيضا من مصر، كان يوما شتائيا (في السنة الرابعة نتدرب على فترتين الفترة الأولى بالنصف الأول من العام الدراسي متفرقة أي حصة في الاسبوع، ثم فترة ثانية متواصلة لشهر)، كانت الفترة الأولى بمدرستي (حليمة السعدية)، والحصة هندسة، ويشهد الله لا أحبها، وكان مدير المدرسة حاضرا ومعلمة الفصل ومعلمتي، وكانت الديباجة الأولى سهلة وموفقة لأنها كانت كتابة وشرح عن (متوازي الاضلاع). خرج المدير منشرحا وبدأت في الجانب العملي، مسطرة طويلة وأظن منقلة ووو وقف حمار الشيخ عند العقبة؟ وجاءت مشرفتي لتكمل الشرح وأجلس في المقعد الأول، وحين خرجت متأخرة من الفصل (الصف الخامس بنات) كانت المطر دافقة ورائحة الأرض والاشجار (كانت المدرسة محاطة بمزارع الزيتون والنخيل وكل انواع الخضر والفواكه البرتقال والليمون) وكان ثمة (اتريللا) حجرة خاصة بنا نحن فريق المتدربات/المعلمات، ودخلت مرتجفة مبللة لأجد رائحة الشاهي العبقة بالنعناع و(نفاص طن بخبزة سخونة وسفنز) وبدأت الهجوم لتواجهني مشرفتي وانتبه لما فعلت فانفجر ضاحكة (انت يا بنت ما عندكش دم بتضحكي على خيبتك)، ولتفاجئ بردي (باهي يا ابلة، كيف بنتعلم كان ماغلطش، وانت ما شاء الله عليك كملت الدرس وفهمنا منك)، فتضحك قائلة (تعرفي انتي محظوظة، المدير بيشكر فيك اصلوا مشفش خيبتك قال: هي فالحة زي خوها الكبير….)
أمّا التربية العملي المتواصلة فكانت في مدرسة (حطين)، وتلك حكاية أخرى.
3 تعليقات
سيدتي
سيرتك هذه ليست سيرة شخصية، بل سيرة كل فتيات ونساء ليبيا.
في هذه السيرة نعيد مشاهدة المجتمع الليبي كيف كان، وكيف عاش، وكيف جاهدت الفتاة الليبية من أجل أن تكون فاعلة في المجتمع.
أشكرك على هذه السرد الجميل.
نشكر مرورك الكريم
شكرا لمرورك الكريم واهتمامك بهذه السيرة، ربما هي سيرة تحلول تلمّس بعض ماكان في حياتي ولكنها تامّاس مع بعض حسوات الأخريات، بعضهن وليس كلهن. شكرا لمرورك