ظهرَ في وقت غير مناسب، لقاءات متكررة؛ أولها عشاء عمل مع الشركة، وثانيها مسابقة الخيل في النادي، وثالثها في الملتقى الثقافي، ورابعها لا أذكر بل أذكر جيداً كانت في امسية شعرية السابعة مساءاً وكان يرتدي بنطالا أزرق وقميصاً مخطط ويحمل ديوان الشاعر بيديه اليمنى. تكررت الصدف حتى بت أشك أنها مُرتبة.
قرر اليوم أن يقطع طريقي قائلا: هل لي بكوب من القهوة مع الجميلة؟
ابتسمت، ولوهلة تذكرت وقلت: ربما في أحلامك ورحلت.
لم ترقني كلمات أدم المعسولة يوماً، ربما كان رداً قاسيا لكنه يستحق.
يوم جديد مزدحم بالأعمال وعند دخولي الاجتماع وجدته أمامي، أربكتني نظراته، أكملت عرض الشركة التي أعمل بها.
قاطعني قائلاً: موافق.. سأكون على اتصال بالأستاذة غاده وأنهى الاجتماع.
ورمقني بظرة انتصار. وافقته وقلت: في أي وقت أستاذ طلال وغادرت القاعة.
طرق باب المكتب ودخل، تحدثنا لساعات وعند انتهاء الدوام قال: تحقق حلمي في شرب كوب قهوة معكِ وعلى حسابك أيضا؛ (كل شي ممكن حتى المستحيل يحتاج وقت).
تكررت رسائله وتلميحاته، وأنا ثابتة لم أتزعزع، لن أسمح لرجل أن يتخطى أسوار حصني مرة أخرى، لم يعد يهتم عند عدم اكتراثي له، بدأت الصدف في الاختفاء والزيارات تتلاشى. تابعت عملي وبدأت أجهز للسفر برفقة المدير بشأن صفقة جديدة.
حطت بنا الطائرة في مطار فيينا، انتهيت من عملي وذهبت لرؤية المدينة، فمنذ أن انفصلت عن زوجي السابق، قررت أن أكمل كل أحلامي التي انهارت بوجوده، أتشوق لزيارة الشوارع المتاحف دار الاوبرا. خرجت بمفردي، فأخي أحمد لم يقيدني يوما ويمنحني مساحتي الخاصة في كل وقت، أذواقنا مختلفة في زيارة الأماكن والاهتمامات.
بدأت في السير في شارع “ماريا هلفر”، ولفت انتباهي مقهى في نهايته قريب من حديقة “اشتاد بارك”، هممت بالجلوس لشرب القهوة وعند فتحِي لهاتفي انتبهت إلى تاريخ اليوم؛ فقد مرت أربع سنوات على انفصالي، أنا اليوم بأفضل حال من دونه، لم نتفق يوماً، فقد كان شديد العصبية وحرمني من أبسط حقوقي؛ عملي، صديقاتي، كتبي، كان يمقت كل الاشياء، إلى أن قام بقذفِي بالسب والشتم والضرب المبرح، فتعرض لنوبة صرع، تفاجأت به وعند حضور عائلته أخبرونا بمرضه، واعتذروا عن عدم إخباري بالأمر منذ البداية، بعد عام كامل، إنه الظلم بعينه.
انفصلنا، وبدأت قصة المجتمع في الدوران مطلقه، حرف ناقص، لماذا تعمل؟ لِما تخرج؟ كيف تفعل هذا وذاك؟
أثق بنفسي، وأعرف ديني وواجباتي، ولا يهمني ما يقال عني. تجاوزت القال والقيل بفضل والداي وأخي.
قاطع شرودي قائلا: يا لي من محظوظ!
وقعت عيني في عينه، وأطال النظر. فأجبته: كنت أفكر في كتاب جديد أريد قراءته، أتريد معرفة اسمه؟
سحب الكرسي وجلس: نعم ما هو؟
فقلت بغيظ: أمنيتي أن أقتل رجلا!
فضحك حتى دمعت عيناه، وقال: أنا ميت فعلا، منذ أن تزوجتِ برجل لم يكن من أمنياتك.
صعقت من كلماته، ولم أنبس بكلمة، فقد مر شريط الذكريات أمام عيناي، وقلت: ماذا؟ أتعرفني من قبل؟
فرد: نعم منذ تسع سنوات مضت كنا زملاء دراسة، وأحببتك سراً ولم أكن قادرا على البوح بهذا الحب، لم أكن شجاعاً إلى هذا الحد، كنت أنتظر أن ننهي دراستنا وأتقدم لكِ، ولكن انتهينا ولم أعرف إلا اسمك الرباعي، وعند وصولي لبيتكم كنتِ قد تزوجتِ بآخر، وأخبروني بأنه زواج تقليدي، وعند لقاءنا في ليلة العشاء لم أصدق وعلمت بأن الله أراد أن يجمعني بك مرة أخرى، لن تهربِي هذه المرة.
لا إراديا قلت: لم أهرب تلك المرة.
فابتسم ورد: نعم أنا من هربَ لساني.. اغفريِ لي فقط!
نهضنا وتمشينا، بجانب الحديقة أخبرته عن كل ما حدث بالتفصيل الممل، أخبرته بأنني لست مستعدة لتجربة أخرى بعد ذلك العناء. نطقت عيناه تلك الليلة، وليس لسانه فقط: أرجوكِ فرصة واحده هذه المرة فقط، وسأثبت لكِ مدى صدق مشاعري وعشقي لكِ.
ابتسمت، أمسكتُ يده وقلت: أريد غزل البنات.
المنشور السابق
المنشور التالي
صفاء يونس
صفاء يونس عامر.
من مواليد مديمة طرابلس 1995.
تكتب القصص القصيرة والنفحات الارتجالية والخواطر.
نشرت عدة نصوص في المواقع الالكترونية وصحيفة الديوان.
المؤهل بكالوريس تخطيط مالي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وتعمل رئيس قسم التسويق شركة HTGroup.
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك