الباحث الليبي “عبدالمنعم المحجوب” يؤكد أن الآراميّة والعبرانية والمصرية والعربية وغيرها من الأفروآسيويات تعود إلى مقاطع جذرية.
صحيفة العرب: حاورته: خلود الفلاح
على مرّ التاريخ تأثرت اللغات ببعضها بعضا، وأثرت ببعضها، هناك لغات ولدت من لغات أخرى، ولكن الباحث الليبي عبدالمنعم المحجوب يقول إن اللغات الأفروآسيوية والهندوأوروبية، لها جذور سومرية ولها الفضل في خلق الكثير من اللغات منها اللغة العربية التي تحتفل بيومها العالمي يوم 18 ديسمبر الجاري. “العرب” التقت الباحث في هذا الحوار.
ينطلق عبدالمنعم المحجوب في أعماله من البحث في تاريخ الحضارات الليبية القديمة، ويلفت إلى أنه يهتم بتاريخ الحضارات القديمة بشكل عام. وفي ما يتعلق بضفاف البحر المتوسط، شمالاً وشرقاً وجنوباً، فإن ليبيا نقطة بدء رئيسية وهي تكتظّ بالآلهة وأنصاف الآلهة والشعوب والأحداث. هي ليست ليبيا التي نعرفها الآن بحدودها، ففي يوم من الأيام كانت قارّة بأسرها أخذت في ما بعد اسم أفريقيا، ثم كانت إقليماً شاسعا يمتد من غرب النيل إلى المحيط الأطلسي.
هذه هي ليبيا التي يعنيها، مستطردا “مما أقوم به من متابعة وتدقيق، أستطيع القول إننا لا نعرف سوى القليل عن تاريخ الحضارات في ليبيا، 70 في المئة من تاريخنا القديم ما زال مجهولاً، ولا يصبح المشهد العام واضحا إلا إذا بدأنا الحديث عن الفينيقيين. قبل ذلك نحن أمام بعض الأساطير المصرية المدوّنة، وأمام شواهد غائبة ما زالت تحت التراب. الجرمنت، التبو، الأمازيغ، الغوانش، الطوارق، والأقوام التي عاشت في المدن الصحراوية المفقودة التي ذكرها بالبوس في حملته، وأُسميه بالبو الأول، لأن بالبو الثاني جاء مع الطليان”.
بحوث تاريخية
بحسب المحجوب، ليبيا جغرافيا مرنة، حدودها ليست ثابتةً أبداً، ربما شمالها المطل على البحر فحسب، أما فضاءاتها البرية فهي متداخلة ومتحركة، لا أحد يمكنه الحديث علمياً عمّا قبل الألف الأولى قبل الميلاد، وتأويل النصوص المصرية القديمة لاكتشاف مسارات الحراك الاجتماعي واللغوي والديموغرافي الكبير الذي عرفته هذه البلاد ينفتح على تأويلات متناقضة، وليس لدينا سوى شواهد أركيولوجية قليلة مبعثرة هنا وهناك، لتوضيح ذلك سينشر كتاباً مع مطلع السنة القادمة عنوانه “علم الدراسات الليبية (ليبيولوجيا)”، وقد استغرق إعداده ثلاث سنوات.
ويرى صاحب كتاب “معجم تانيت” أن الكتابة التاريخية حول الأدب نوع من التأريخ في حالة واحدة إذا اتسع مفهوم التاريخ ليشمل النوازع والرغبات، ومقاصد الأحداث، ويضيف “ولكن هذا مجرد تواطؤ، إنه في الحقيقة أُمنية. نحن لا نعثر على التاريخ بالمعنى الدقيق للمفهوم في الكتابات التاريخية القديمة حتى وهي تدّعي أنها تكتفي بالتأريخ للوقائع والأحداث، في مقابل ذلك هل نقبل أن تكون الكتابة التاريخية عن الأدب كذلك، وهي لا تدّعي التأريخ، لا أعتقد. نحتاج إلى تأويل مركّب لكي نكتشف ذلك، لأن تاريخيتها مختلفة، إنها غير التاريخ الذي يتبادر إلى الأذهان عندما نقول هذه الكلمة، هناك تاريخ خاصّ يتكوّن منذ القدم بجوار التاريخ العام، وقد حدث هذا دائما في جميع الحضارات القديمة”.
في كتابه “بيان ضد الكهنوت الإسلامي” استطاع توضيح وجهة نظره القائمة على أنه يجب النظر إلى الإسلام من منظور نقدي دون الوصول إلى مسألة إطلاق الأحكام المطلقة. مشيرا إلى أن هذا الجانب هو الأكثر وضوحا في “البيان”، فالأحكام المطلقة هي الخطيئة الأصلية التي ترافق الإنسان، ولن يتخلّص منها أبدا، ولكنه يلجأ إلى التطهّر منها كلما فكّر في آدميته وأراد أن يكون كاملا.
اللغة السومرية
أما في كتابه “ما قبل اللغة: الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية” فقد برهن المحجوب أن اللغة العربية هي امتداد للغة السومرية. موضحا “العربية العالية جزء من المنظومة (ولا أقول العائلة) اللغوية الأفروآسيوية، هذه المنظومة نشأت تدرّجا عبر الزمن، بدءًا بالألف الخامسة قبل الميلاد، غير أن الفصحى وحدها ليست هي كل اللغة العربية، لقد حفرتُ طبقات عميقة محاولاً اكتشاف ما لم يدوّن، وما لم يحفظه لنا التاريخ في سجلاته. إذا أردنا أن نتحدث عن فلسفة اللغة وفق هذا الفهم، أعني كما استقرّ البحث لدي، فإنني أفضل العودة إلى الجذور”.
ويتابع صاحب كتاب “قراءات في السلم والحرب”، “انتهى الأمر قبل الآن بأن جُعلت الأكدية مبتدأ المنظومة الأفروآسيوية، أو جذعها الرئيس، وتم التوافق على عزل السومرية الأسبق وجودا، قيل إن لا صلة لها بأي لغة أخرى في العالم، وجرى وصفها باللغة المعزولة، هذا بالطبع أمر محيّر، لغة تستقر في مكان ما لأكثر من ألفي عام دون أن تؤثر أو تتأثر بما جاورها من لغات. لقد بحث الرواد الأوائل عن المتشابهات فلم يجدوها لأنهم لجأوا إلى طرقهم المعتادة في دراسة الهندوأوروبيات والأفروآسيويات، ثم لأن بنية السومرية النحوية مختلفة تماماً عن السامية الأم والهندوأوروبية الأم وهما لغتان مفترضتان استقرتا لديهم في مجموعة من القواعد العامة، فقد حكموا بأن السومرية نبتت في بلاد ما بين النهرين، ثم اندثرت هكذا دون أن تتصل بما جاورها من ألسنة ولغات”.
ترك المحجوب مناهج القراءة وأصول البحث جانبا، وابتكر منهجاً جديداً يتلخّص في البحث عن توطّن المقاطع السومرية في اللغات الأفروآسيوية، وكانت البداية باللغة العربية حيث لم يكتفِ بالبحث عن المتشابهات، وهي كثيرة جداً بين اللغتين، بل عمد إلى قراءة المفردات العربية، وبعد ذلك المصرية القديمة، والأكدية والعبرية والآرامية وغيرها، بردّ جذورها إلى مكوناتها المقطعية، وخلص إلى أن المقاطع السومرية المفردة والمثناة مقاطع جذرية مستقرة في جميع لغات الشرق الأدنى القديم، مثل الـ“دي. أن. أي” في الكيانات العضوية.
هذه المقاربات جعلته يشكك في التاريخ القديم، إذا نحن لم نفهم طبيعة اللغة من داخلها، في عمقها، فكيف نجيب عن الأسئلة التي تتعلق بمصائر الناطقين بها. لم يقل الروّاد الأوائل شيئا ذا بال عن نهاية السومريين، وهذا امتداد لعدم معرفتهم بنهاية السومرية، هذه النهاية تجيب في الوقت نفسه عن أسئلة أخرى تتعلق بتاريخنا القديم.
ويشير عبدالمنعم المحجوب إلى أن السومريين هم بنُو كنعان، اسم سومر في لهجة إيمسيل العامّة، هو كنانع والصامت الأخير يسقط عادةً في التسميات السومرية، فهي كينان، لأن حرف العين مضمر أو مغيب في نقرة الكتابة المسمارية، كنان هذه هي كنعان، والكنعانيون هم السومريون، هذا يكشف أصول الفينيقيين التي تنقل بها الباحثون من مكان إلى آخر، من اليمن إلى البحرين إلى أماكن أخرى في الجزيرة العربية إلى غير ذلك. بنو كنعان جاؤوا من العراق ولم يأتوا من أي مكان آخر، استقروا على ضفاف المتوسط الشرقية، ثم استفادوا من تراثهم الملاحي وغزوا البحر المتوسط وتوطّنوا شمال أفريقيا وأسسوا المدن الليبوفينيقية كما في نصّ رحلة الملك حنون، وارتادوا الأطلنطي وطافوا حول رأس الرجاء الصالح.
وتوصل المحجوب في كتبه “ما قبل اللغة” و“أصوات بابل” و“المعجم السومري” إلى أن العربية، والآراميّة، والعبرانية، والمصرية، وغيرها من الأفروآسيويات هي لسان واحد، لا بالعودة إلى الأكدية فحسب، بل باستظهار ما فيها من “دي.أن.أي” سومري. إن هذه التسميات هي أشكال متعددة لكيان واحد عمره خمسة آلاف سنة.
شعوب الشرق الأدنى القديم، أُممه وقبائله التي تفرّقت ونأى بعضها عن بعض، تكلمت السومرية عن طريق مقاطعها الجذرية، كل بما اشتق منها وبما انتهى إليه، وبمرور الوقت تطورت الدلالات، وتضخمت معاجم الكلام وذخائره، واختلفت أساليب التلفظ متأثرة ببيئاتها الطبيعية والاجتماعية، حتى أصبحت الأساليب ألسنة مختلفة، بالعودة إلى المقاطع الجذرية يمكن أن نكشف عن هذه الوحدة العميقة لهذه الألسن.
ويتابع المحجوب “أنا العربي مثلاً عندما أقول كلمة واحدة أكون قد جمعت مقطعين سومريين أو ثلاثة، لأصنع هذه الكلمة، وبعبارة أخرى، هناك بنية مقطعية مجهولة في الكلام العربي الذي لا يُعرف إلا ببنائه الجذري، وكان أول من أشار إلى ذلك هو الخليل بن أحمد الفراهيدي في مقدمة كتاب العين، ولكنه تجاوز البناء المقطعي إلى الاعتماد على الجذور اللغوية والبناء عليها، وعلى ذلك استقر البحث اللغوي بعده. العرب يتحدثون السومرية دون أن يعوا ذلك، سأعطيك هذا المثال: عندما أقول ‘كتب‘ أقول في الواقع عبارة سومرية مكونة من ثلاثة مقاطع جذرية (كَ أي كلام، وتَ وهي أداة استعانة، وبَ أي رقيم)”.
يقول ضيفنا “عندما درست لغة التبو الليبيين وجدتها تبنى على هذه المقاطع السومرية التي تؤلف كلماتهم وتصنع لغتهم، والتبوية الآن مصنّفة ضمن المنظومة النيلية الصحراوية، ولكنني شككت في ذلك في ‘كتاب التبو’ الذي أصدره مركز الدراسات التبويّة منذ عدة سنوات. إن هذا الاكتشاف لا يرضي الكثيرين لأنه يهدم الأسس التي تعلّموها ووضعوا عليها معرفتهم باللغات وتصنيفها، ولكنني أذهب إلى أبعد من ذلك، فهذا الأمر ينعكس على السنسكريتية ومنظومة اللغات الهندوأوروبية وفقاً للمنهج الذي عملت به، وهو قراءة اللغات في هذين المسارين العظيمين (أعني الأفروآسيوي والهندوأوروبي) بالاعتماد على المقاطع الجذريّة السومرية كما أثبتها في كتاب ‘ما قبل اللغة’. لقد كتبتُ للمستقبل، وأعرف أن هذه النظرية المثيرة للجدل في هذا الوقت سوف تصبح قاعدةً علميةً يوماً ما”.