لم تكن متأكدة وهي تنحني على الطبق لتذوق قطعة المقروض، من أن ما سمعته من المرأة كان عرضاً حقيقياً بأن تبيعها زوجها! احتفظت بفتات القضمة في فمها، وأمالت رأسها لتسمع من جديد كلمات المرأة التي جاءت واضحة وحاسمة:
– أتنازل لكِ عن زوجي مقابل عشرة آلاف دينار.
ذابت قضمة المقروض سريعاً في غمرة الدهشة، وسال خيط من العسل على زاوية فمها، مررت عليه طرف إصبعها ثم لعقته بطرقعة عالية من بين شفتيها، وحتى بعد أن ابتلعت القضمة، ومسحت إصبعها على ثيابها، لم يتوقف لعابها عن التدفق، كانت تذوق رشفات شهد كادت أن تنساه منذ أن تجاوزت سن الخامسة والثلاثين، قبل أن تودع آخر خاطبٍ، طرق باب بيتها وانصرف دون أن يبدي مبررات لذلك.
يومها تألمت كثيراً، بكت كثيراً أمام المرآة في غرفتها، أجهشت بصوت عالٍ، وبعد أن أفرغت كل عبراتها غسلت وجهها وخرجت لتلتهم أطباق الحلوى التي كانت قد أعدتها لاستقبال العريس، احتست لتراً كاملا من شراب الروزاطة الكثيفة، وطحنت بأضراسها فصوص الجوز واللوز، كانت تأكل وتشرب بنهم، وتطرد عنها حلم الفستان الأبيض وجوقة الزغاريد وأهازيج ليلة الحناء. في ذلك اليوم قررت أن تدلل نفسها بكل ما تشتهي، أن تغدق عليها العطور والثياب، وترضي ولعها بالشيكولاتة الغالية، تدس ألواحاً منها في حقيبة يدها، في درج مكتبها وغرفة نومها، وتشتري الكعك والمقروض من الصانعات الماهرات.. كانت هذه المرأة البائسة العجفاء ذات القوام الخشبي هي أفضل من يخبز المقروض في هذا الحي، ما جعلها تواظب على شرائه منها كزبونة دائمة منذ عامين، ورغم ذياع صيت مقروضها، وهشاشة قوامه المشبع بالعسل، والزبائن الذين يقصدونها من أماكن عدة، إلا أن أفواه أولادها الستة ظلت مفتوحة وجائعة، والزوج العاطل عن العمل كعادته، يتمدد أمام التلفاز يراقب أخبار السياسة ويلعن شركة الكهرباء ومسؤول الصحة والتعليم ويشكو أوضاع القمامة والبنية التحتية، وحين تختفي الزوجة في المطبخ يقلب القنوات بحثاً عن مغنيات (البرتقالة) بأجسادهن المكتنزة من تحت الفساتين الصفراء الضيقة.
لطالما همست إليها في الثرثرات القصيرة التي تتبادلانها حين تأتي لشراء المقروض، وحين تندب حظها العاثر من العرسان الهاربين، بأن الرجال لا يُؤمن جانبهم، وأن زوجها القابع هناك في الصالة مثل ديك أجرب، لولا أن لا شيء في جيبه سوى الهواء لكان قد تركها منذ زمن بعيد. الآن تريد أن تبيعها الديك الأجرب بعشرة آلاف دينار، سمعتها تكرر الطلب قائلة:
– إذا دفعتِ لي عشرة آلاف دينار، سأتركه لك، وسأشتري للولد الأكبر سيارة تاكسي. التاكسي مربحها جيد، سينفق على إخوته وينشغل عن رفاق السوء والمنحرفين.
بدا العرض مغرياً للفتاة، بعشرة آلاف يمكنها أن تحقق حلم الفستان الأبيض، وقمصان النوم المعطلة خارج الخدمة، تفتق أثر حلاوة المقروض شهيا في فمها، وانتابتها رغبة جامحة في التهامه بما يشبه حالة وحم مفاجئ، فكرت في فساتين الحمل، ومراجعات طبيب التوليد، ومناغاة رضيع تسميه حمودي، ستصبح أم حمودي على صفحات التواصل الاجتماعي فتكيد القريبات والصديقات اللاتي عيّرنها بالعنوسة.
تقف المرأة العجفاء حاملة سؤالها.. ثقلا كبيرا يجثم فوق صدرها.. وحشاً يلتهم عرق جبينها، وبالوعة مجارٍ تقذف ألفاظاً بذيئة تخدش الحياء أمام أولادها.. كانت تريد أن تطلب عشرين ألفا، فالفتاة المكوّمة في بلوزتها المرقطة، وسروال الفيزون الذي يكشف بطتي ساقيها الممتلئتين، قضت ربيع عمرها في الوظيفة، وها هي ترقد كدجاجة سمينة على بيضها الذي لن يفقس أبدا بدون ديك حتى لو كان أجرباً، لكنها ستكتفي بعشرة آلاف، لا تريد أن تطلب فيه سعراً أكبر مما يستحق.
– إذا وافقتِ سأمنحك معه سفرة المقروض هذه بالعسل الطبيعي.
فكرت أن تُماكس قليلاً، فعشرة آلاف سعر مرتفع جدا بالنسبة لهذا الديك المنتوف، ماذا لو خفضت السعر إلى خمسة آلاف، في كل الأحوال هو لن ينفق شيئاً في هذه الصفقة، سيجد أمامه الشقة كاملة بأثاثها، والسيارة رابضة في كاراجها، ومرتبها الذي سيطعمه ما يشتهي، وفوق ذلك برتقالة كبيرة بضة ممتلئة بالشحم واللحم، وسيتابع كالعادة أخبار السياسة والطقس وأسعار العملة ويلعن الحكومة والقمامة والبنية التحتية. عشرة آلاف سعر مرتفع مع تلك النفقات الإضافية، لكنها ستقبل به، فمن يدري لعل هناك من ماكست قبلها فخسرت الفرصة التي لا تأتي إلا مرة واحدة.
لا مزيد من التفكير، أمامها السُّفرة الكبيرة المرصوصة بالقطع الشقراء التي لفحها الفرن بحمرة خفيفة، تتراقص النقوش السعفية بإغواء.. وتغمز حبات السمسم كغرز الدانتيل في أطراف الفستان الأبيض.. يتفصد الطعم الحلو من جميع مسامها، ويتجلى عالم من الأمنيات المشتهاة بسمنها وعسلها، بتمرها ولوزها وطحينها، بلفحات الحمرة الطافحة بآثار حرارتها.. مدت يدها فالتقطت قطعة، دفعتها لتذوب بين شفتيها وامتصتها في نهم.
المنشور السابق
المنشور التالي
عائشة إبراهيم
عائشة إبراهيم من مواليد مدينة بني وليد، درست الرياضيات في كلية العلوم ثم الإحصاء في الدراسة العليا، عملت بالتدريس، ثم بالإعلام الانتخابي بالمفوضية العليا للانتخابات. بدأت تجربتها مع الكتابة في سنوات مبكرة من خلال المسابقات والأنشطة المدرسية، وفازت عام 1990 بالجائزة الأولى على مستوى مدارس الدولة الليبية بنص مسرحي بعنوان (قرية الزمرد). صدر لها خلال العام 2016 رواية (قصيل) عن دار ميم بالجزائر، وأدرجت الرواية ضمن المقرر الدراسي في مادة السرديات ببعض الجامعات الليبية، ثم رواية (حرب الغزالة) التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر للرواية العربية، ثم (العالم ينتهي في طرابلس) وهي مجموعة قصصية صدرت في 2020، ولديها تحت الطبع رواية (صندوق الرمل)، حازت على تكريم من منظمة الصداقة الدولية في دولة السويد ضمن 60 شخصية نسائية مؤثرة ومبدعة، ونالت وسام الإبداع والتميز عن وزارة الثقافة الليبية 2020، تقلدت رئاسة لجنة تحكيم مسابقة القصة القصيرة للشباب في دورتها الأولى التي نظمتها وزارة الثقافة الليبية، وترأست لجنة تحكيم المهرجان الأدبي لإبداع اليافعين خلال العام 2019، شاركت في عضوية لجنة تحكيم مسابقة سيكلما للقصة القصيرة خلال العام 2019.
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك