الكاتب: محمد محمد المفتي
حوارات

حـوار صـريح .. مع الدكتور محمد محمد المفـتي

الكاتب: محمد محمد المفتي
الكاتب الليبي د.محمد المفتي

أجرى الحـوار نور الدين الثـلثي،

محرر موقـع ” كلمــات” على الإنترنت

الدكتور محمد المفتي رفيق درب امتدّ لأكثر من خمسين عاماً، متعدّد المواهب والاهتمامات في العلوم والأدب والفن، ولعل دوره النشط في قضايا الشأن العام ومؤلفاته في التاريخ الاجتماعي الليبي، هي الأبرز بين ما يعرفه معظمنا عنه، وإن كانت لا تمثل كل إسهاماته في الحياة العامة، طبيباً ومفكّراً وناشطاً سياسياً، بل ورساماً. وتبرز في مسيرة الدكتور المفتي محطات يتقدمها اعتقاله لمدة أحد عشر عاما في العهد السابق، وعناوين مؤلفاتٍ لا يخطئها أحد في مقدمتها ’هدرزة في بنغازي‘ و’هذا الوطن الذي يسكننا‘ وأخيراً ’زمن المملكـة‘. وكان للدكتور المفتي، ولا يزال، دوره في عهد ثورة 17 فبراير المجيدة. وكما في كل مرة نلتقي فيها، كان للشأن العام نصيبه الأوفر، وإن تشعبنا منه إلى العالم من حولنا واجتماعيات لا تخلو جلسة من تناول أخبارها.

في هذه المرة اقترحت على الدكتور المفتي أن يقوم بالرد على أسئلة محددة تخصّ الوضع القائم في ليبيا وتطوراته المنظورة أو المتوقعة على المدى القريب، وذلك من موقعه الذي تعامل فيه من عديد القوى الفاعلة في ليبيا… في قواعد الثورة وعلى كراسيّ السلطة – إن صحّت تسميتها بذلك، وذلك بغرض النشر، فكانت هذه الأسئلة وإجاباتها:

المراقب يفترض أن لك علاقة وظيفية سياسية بالدولة التي هي في طور التكوين الآن. ما حقيقة هذه العلاقة؟

ما كان لي إلا أن التحق بركب الثورة منذ الدقائق الأولى، وكنت في ميدان الشجرة مع الشباب الذين أشعلوا شرارة الثورة مساء الثلاثاء 15 فبراير، ثم في أروقة المحكمة، وكنت أحد ثلاثة قاموا بصياغة بيان الثورة الأول، مع د. فتحي البعجة والأستاذ صالح الغزال. وكان الحاج إدريس لاغا موجود. بعد الأسابيع الأولى من الثورة، اكتفيت بموقـع المراقب على الأكثر. معظم رجال الدولة معارف أو أصدقاء، لكن لا تربطني أي علاقة وظيفية أيا شكلها بالدولة الحالية. وأنا لا زلت أمارس الطب، منذ أن تـقـاعـدت من الدولة قبل 15 سـنة.

ولكنك مستشار لرئيس المجلس الوطني الانتقالي.

مجرد حكاية .. وفي سياق “جـو” المجلس الانتقالي افتقدت للجدية .. وأنا أفترض حسن النية هنا. كل ما هنالك أن السيد مصطفى عبد الجليل، في اجتماع في بنغازي مع منظمات المجتمع المدني، إبان اعتصامات ميدان الشجرة، قال أن المفتي والشيخ محمد بوسدره يمثلانه في بنغازي. لم أكن موجودا، ولم يكن لدي سابق عـلم. المهم الأستاذ مصطفى صديق. وماذا تقول لصديق؟ بعد ذلك جاءتني نسخة من رسالة رسمية عن تشكيل لجنة استشارية من أربعة. واجتمعنا مرة واحدة. ثم اختفى وسام بن حميد من اللجنة ، والتقينا مرة مع الأستاذ مصطفى ، أنا وبوسدرة وعبد الجواد البدين. وفي ما بعد أعلن الشيخ عبد الجواد استقالته على التلفزيون. على أي حال، لم أر الحاج مصطفى منذ شهور، ولا حتى صديقي الشيخ بوسـدرة ! الحاج مصطفى عبد الجليل منصت ومحاور هادئ، لكن يبدو أنه يتخذ قراراته بمفرده. أو ربما بمـشـورة ثـقــات آخرين لا أعرفهم. ولذلك آثرت الانسـحاب. أقول هذا لا من باب المزايدة بل من باب تبرئة ذمتي وإحـقــاق الحق.

هذا لا يوحي بوجود عملية صحيحة أو صحية لصنع القرار على أعلى المستويات. أين تكمن المشكلة في رأيك؟

ليست هناك آلية لاتخاذ القرار. الدولة تـعـمل بما يشـبه الرغاطـة .. جمع متحرك، الكل يـحـاول أن يـعـاون، والموجهون كثيرون. الحساسيات كثيرة، وكذلك المطامع. ليس هناك مسارات واضحة لاتخاذ القرار؟ الصدفة والعشوائية هي السمات البارزة. وكما ترى كل قرارات المجلس الانتقالي مليئة بالأخطاء، لأنها تسـند إلى شخص مثلا، ولا تـقـرأ. ولهذا تتم مراجـعـتها بعد صدورها وتعديلها. ربما لضيق الوقت وكثرة المشاكل. وقرارات أخـرى ملحـة تضيع وسـط الضجيج. للأسـف ليست هناك رؤية مسـبقة وبعيدة النظر.

وإذا تحدثنا عن أمثلة بعينها؟

السؤال التلقائي هـو ماذا حققت الثورة. نعم أزاحت عن صدورنا ثقل وبشاعة نظام الطاغية، وشـعرنا بالحرية ، لكن لابد أن يشعر الناس أن الثورة حققت لشبابنا شيئا ما .. شيئا ملموسا .. الإنسان لا يعيش بالأناشيد واللافتات والشعارات .. لا بد أن نقدم شيئا للناس، للمواطن العادي. أسر الشـهداء، مشاكل النازحين، السجناء السياسيين السابقين. ماذا ننتظر؟ الناس بحاجة للاسـتـقرار والأمن .. الاقتصاد مشلول. ماذا ننتظر؟ وأنا أستغرب .. كيف نصرف مليار ونصف مليار دولار على الجرحي في أحد البلدان. ولا تحتاج أن تكون عبقريا لكي تعرف أنك بهذا المبلغ تستـطـيع أن تشتري أربع مستشفيات، أو تـؤجر مستشفيات عائمة. كيف غاب هذا عن صناع القرار؟ أم أن الفساد والإفسـاد مطلوبان؟

قامت الثورة بصورة عفوية تلقائية، ومن دون قيادة من نخبةٍ أو عسكر أو غيرهم.. قامت بها جماهير ثائرة هدفها اقتلاع النظام المستبد، وانتصرت الجماهير وتحقق هدفها. هل يصح الحديث عن سرقة الثورة؟

لاشـك أن الثورة حققت هدفها وهو إسقاط الطاغية. ما حدث بعد ذلك، في الواقــع أن الدولة اختطفت. الدولة وليست الثورة. نحن الآن عندنا عدة قـوى أو فئات تهيمن على مسار الأمور في الدولة، بشكل مباشر أو غير مباشر. هناك الثوار، ربما خـفـتَ صوتهم الآن، لكن حضورهم موجود سـواء كثوار حقيقيين أو مسلحين. انتشار السلاح تهديد مضمر. فالمسئول يحسب مائة حساب لـهـم وبالتالي لا يستطيع أن يتخذ قرارًا شجاعـًـا حتى ولو كان فصل موظف، خشية الانتقام.

ثم هناك السلطة الرسمية التي تهيمن على أموال البلاد وتحظى باعتراف العالم، جلها في يد أناس لم يشاركوا في الثورة بل ولم يكن إسقاط القذافي من بين هـمومهم. لا أصادر حقـهـم ، فهم ليبيون. لكن هذا عنصر هـام لفهم مـواقـفـهـم. هذا الوضع ليس وليد مؤامرة، بل لأن الثورة اندلعت بـعـفـوية ودون قيادة. لكن من يسيرون الأمور الآن يفعلون ذلك بروح روتينية بطيئة، دون إدراك للأولويات الملحة. أعطيك مثل بسيط. مشـروع المساكن عند تيكا على طريق طرابلس. لو استأنـفـنـا المشروع سنحصل على 15 ألف وحدة سكنية خلال عام، نوزعها على الشباب. لماذا لم يعطى هذا الموضوع أولوية؟ هكـذا الفرق بين بين تفكير الثائر وبين رؤية الموظف للأمـور.

وهل تسرّب رجال عهد القذافي إلى دولة 17 فبراير؟

لا ننسى دور العالم الخارجي .. كان جوهـريا في انتصار ثـورة فبراير المجيدة. وهم شركاء لما في إعادة بناء ليبيا. والدول الكبرى كانت تخشى تكرار أخطائها في العراق، حين سرحـوا الجيش وإدارات الدولة بعد سقوط صدام وانتهوا إلى فوضى وسيطرة أصحاب السيارات المفـخـخـة. وشئ شبيه حدث في مصر وتونس. وفي هذا السياق دارت مداولات القاهرة الأخـيــرة مع رجال النظـام المنـهار. وهذا ما يحار الناس في تـفـسيره. لكنه ليس بجديد في التاريخ. بل في تاريخنا نحن. فبعد اسـتقلال ليبيا تولى أمور المملكة من كانوا يعملون مع الطليان. علاج مر المذاق،

ربما يمنع الفوضى العشوائـية. هناك فارق بين ما نتمناه، وبين ما يمليه الواقع.

هل تريد أن تقول أن ليبيا قد وقعت في براثن مؤامرة؟

المؤامرة مصطلح عتيق. الأمور أكثر وضوحا الآن. لنبدأ من البسيط. ليبيا دولة مطلة على البحر المتوسط، وبها نفط. نستخرج النفط بتقنيات نستوردها، ونبيع النفط للغرب ومنه نشتري كل ضروريات الحياة. شـركاؤنا هؤلاء لهم رأي في مستقبل ليبيا .. شـئنا أم أبينا. هذه العلاقة تضع محددات .. خطوط لا يمكن للدولة الليبية أن تتجاوزها. أبسط شئ أن العالم الخارجي حريص ألا تتحول ليبيا إلى فوضى. وكذلك مصر وتونس. هذا يعني التدخل بالمشورة والنصيحة والضغط .. وهناك أيـضـا الدعم الإعلامي، والاعتراف الدبلوماسي، بل والحماية الشخصية ضد الاغتيالات والانقلابات. علاقة مركبة، تمليها المصلحة المعلـنـة. هـذه ليست تبريرات، لكن هـذا هـو واقـع الحـال. ويصـدق على كل من يصـعـد سـدة الحكـم ويبقى، بانتخابات أو بأي وسيلة أخرى.

لنعد إلى الداخل. لقد تواصلت مع المستشار مصطفى عبد الجليل في أكثر مناسبة وضمن أكثر من إطار. سأسألك سؤالا مباشراً. هل ستصف تصرفات المستشار وأسلوب تناوله للسلطة بأنها ديكتاتورية؟

على عكس كل اللاعبين على المسرح السياسي، فإنه يحظى بإجـمـاع تاريخي. وعمليا، هـو صاحب القرار الحقيقي الأول.

ماذا تعني بأنه صاحب القرار الحقيقي؟

ما هي أساسيات الحكم ؟ ما الذي يمنحك القدرة على الحكم؟ أولا السلاح .. أقصد السلاح المنظم (جيش، شرطة، أجهزة مخابرات ..)، ثانيا المال، أو القدرة على التصرف في المال العام ، مثلا دخل النفط عندنا. ثالثا الاعتراف العالمي. طبعا هذه عوامل متداخلة، وهناك أيضا عوامل ثانوية. بالمقابل وزير المالية حافظ سـجلات. محافظ المصرف المركزي خـازنـدار. الحكومة الآن مجرد مكاتب إنـفــاق، ومحل تصوير قرارات. لكن أيا من هذه المؤسسات لا يتحرك إلا بأمر الرئيس .. بأمر مصطفى عبد الجليل. هذا كله متسـق مع ثقافتنا. أين وجـه اللامـعـقول عندنا، وأقصد كل الدول التقليدية، إنه يكمن في غياب الشفافية، و غياب آليات لمحاسبة المسئول واسـتبداله تغييره ديموقراطيا. ولهذا يمسي القرار فرديا لمن يقف على قمة هـرم السلطة.

وما الذي تنتظره من السيد مصطفى عبد الجليل؟

الحاج مصطفى كثيرا ما يصف مهمـته الحالية بأنها محرقة. ولعله الآن يتحاشى معالجة الكثير من القضايا، إلى أن يأتي الوقت ليسلم الدولة لسلطة منتخبة، ويستـريح. ربما لا يمسك بكل المقاليد. ذلك ما فـعـلـه جورباتشـوف إثر انهيار الاتحـاد السوفييتي. ثمة تشابه. لكن هل سـينجو من ملامـة التـاريخ؟

الوضع غير مطمئن، لا هو كذلك في الشارع حيث تغيب سلطة الدولة، ولا في مكاتب السلطة نفسها حيث يغيب الحزم وأصول الإدارة. هل ترى في الأفق نذر عودةٍ للدكتاتورية بشكلٍ من الأشكال؟

سـتجد الدكتاتورية من يسوغها بحجة أن البلاد تحتاج إلى قبضة صارمة تضبط الأمور. لكن الشعب الليبي لن يسمح بعودة الاسـتبداد. الدكتاتورية المطلقة فقاعة كاذبة، وانفجرت. اكتشف الليبيون أن القذافي مجرد ممثل، لكنه يحمل مسدس. ومن كانوا يقفون معه وحوله أرغمونا بالوعيد والمشانق لا بتصديق الكذبة، ولكن بالصمت ومن شكك فيها ناله العسف. الاسـتبداد والتـأليـه قائم أصلا على سلسلة لا متناهية من الأكاذيب والأساطير المختلقة. ما زال هناك من يمكن أن يصدقـها، لكنـها لم تعد ممكنة الآن. فعصرنا عصر الشفافية التي تفرضها التقنية .. الإنترنت، الفضائيات، الموبايل .. وكلها تعصو على الرقابة التقليدية.

ولكن الديموقراطية، بل فكرة الدولة نفسها، تقتضي احتكار الدولة بمؤسساتها لاستعمال العنف والسلاح. كيف ترى مشكل انتشار السلاح؟

هناك مشكلة الثوار والسلاح. قدمت مذكرة بالخصوص مبكرا ، لكن الموضوع لم يهتم به أحد. ربما ظنوا أنه سيتلاشى والشباب سيعودوا إلى منازلهم ولحياتهم السابقة. الحل سيأخذ مدة أطول الآن، إلى أن نبنى جيش وشرطة. لكنها فترة حرجة. ندعو الله ألا تنزلق البلاد إلى ما هـو أسوأ. لاشك أن لانتشـار السلاح نتائج عشوائية وبالتالي سلبية، قتل غير مقصود، ثارات شخصية، جريمة، سلب .. إلخ. ســياسيا، له نتائج إيجابية أيضا .. بمعنى أن وجـود جماعات مسلحة .. كتائب، سرايا ، تشكيلات مستقلة نسبيا عن بعضها البعض، يشكل رادع. كل طرف يخشى محاولة الاسـتحواذ على السلطة، خـوفا من الدخول في صدامات مع آخرين.

ولكنك طالبت بأن يتولى الثوار حقائب وزارية؟

نعم . ولم لا . أليست هذه ثورة شباب؟ ثم من يستطيع أن يقنع المسلحين؟ الثوار كانوا يقولون لمن نسلم سلاحنا؟ وما الضمان؟ هؤلاء قاتلوا. فقدوا أصدقاء. رأوا رفاقهم يموتون أو يفقدون أطرافهم أو عيونهم. هذه ثورتهم. فلماذا لا نسلمهم القيادة. في إحدى المدن قال لي أحد الثوار : كيف نسلم أسلحتنا، والمجلس يغازل ويساند مشايخ قبائل يبحثون عن مصالحهم الخاصة؟

وماذا عن الجهاديين؟

لنعترف أولا أن جماعة ليبيا المقاتلة بشتى توجهاتهم كانوا الجماعة الأكثر مشاركة في معارك إسقاط الطاغية. كانوا صـادقين مع أنفسهم وأمام الله تعالى. ربما بعضهم متزمتين. لكنهم بشكل عام وطنيين. ولاءهم لليبيا. ويجب أن نعترف لهم بهذه الجوانب ونقبلهم. ومعظمهم واقعيين. ولابد أن يكون لهم حضور في السلطة. وبالتأكيد سيساعد تعاملهم مع المشاكل اليومية في تقريبهم من وقائع الأمور. العلاقة مـعـهـم يجب أن يكون أساسها الحـوار .. الحـوار وليس الإقـصـاء. الأسلوب الحالي القائم على التجاهل والتأجيل، لا يحل المشكلة .. بل يرحـلها لتنفجـر في موعـد لاحـق .. على نمط مطـار طرابلس.

هل يمكن أن يؤدي هذا الوضع غير المطَمْئن، على مستوى السلطة، والثوار الموازين لها على الأرض، وانتشار السلاح… ويجب ألا ننسى نفوذ ومصالح الدول الأجنبية في البلاد وثروتها… هل يمكن أن يؤدي هذا الوضع شديد التعقيد إلى انقلاب عسكري؟

للأسف هذا أمر محتمل .. الأرجح أننا سـنشـهد سلسلة من الانقلابات خلال السنين القادمة .. ربما بأقل ضجيج مما عرفه العالم في السابق. الثوار متوجسون من الإطاحة بسلطة أجمع عليها الناس، ويخشون من كلفة التحرك .. الذي قد يجر إلى تدخل أجنبي ، أو صراعات في الداخل .. شئ شبيه بحرب أهلية.

وهل ترى في اقتحام ثوار ترهونة لمطار طرابلس الدولي سيناريو أو بروفة إنقلابية؟

قالوا أنهم جاؤا بحثا عن العقيد الحبشي فقط. لكن خروجهم من ترهونة بطايور آليات طويل في وضح النهـار، ثم دخولهم إلى المطار، مؤشرات على ضعف آداء الأجـهـزة الرسمية. المسافة من ترهونة إلى طرابلس 90 كيلومتر، كيف لم ينتبه لهم أحـد، ولماذا لم يسـألهم أحد؟ مثل هذه المعادلة ستغري مغامرين أو غاضبين بالانقضاض على السلطة. من جـهـة أخرى، لاحـظ نتائج هذه الواقعة. لشـهور كان ثوار الزنتان يحرسون المطار، ولأسباب لا أعرفـها اسـتهدف الزنتان بحملة تشهير وتشويه مبكرة وواسـعـة، وظالمـة في اعتقادي، حتى خرجوا. لكن الجيش والشرطة غير قادرين، بدليل أن من أقنع التراهنة بالخروج هم زملائهم الثوار وليس الحكومة. الآن هناك عدة مجموعات من الثوار في المطار. هذا أيضا يختصر المأزق الذي يواجه الثوار : أنهم ليسوا مجموعة واحـدة ، مجرد عدم اندماجـهـم تحت قيادة واحـدة يعني أنهم منقسمون. ربما هذا سيقود إلى انقلابات محلية على السلطة .. فننتهي إلى مناطق شـبه مسـتقلة ذاتيا عن السلطة المركزية، دون أن يسعى إليها أحـد ودون أي شـعار انفصالي! شئ على نمط مصراتة والزنتان الآن. ولعله انعكاس لنمو ديموغرافي ولمعطيات سياسية وعسكرية استجدت خـلال ثورة فبراير، ورفضا لمركزية العاصمة. واقع جديد علينا أن نعترف به، ودون غضب أو مهاترات.

وهذا يجرنا للحديث عن الفدرالية. ماذا عن الفدرالية؟

شخصيا لا أعتقد أننا بحاجة إلى نظام فيدرالي، أي نظام ولايات. نحن بحاجة إلى نظام محافظات، وهذا إن شـئت نوع من الفيدرالية. أنا مع الفيدراليين ضـد المركزية. المركزية كارثة، لأنها تعني تهميش كل ليبيا .. كل من هم خارج مركز مدينة طرابلس. المركزية ظلم ومعاناة وتعطيل للتنمية. هناك نقطة مهمة أخرى. الداعين للفيدرالية هم ليبيون ولا يجب أن ننظر إليهم كما لو كانوا أعداء. ولذلك أدعوهم إلى تأسيس حزب ينادي بالفيدرالية، حزب يعمل في كل ليبيا وليس برقة فقط. منطلقهم ضد المركزية صحيح. توجـهـهـم ولغتهم وتركيزهم على برقة هو الأمر المقلق. وأكرر أن تعاملنا مع مؤيدي الفيدرالية يجب أ، ينأى عن لغة التخوين والإدانة والتشكيك.

إذن ما شكل الدولة الذي يمكن أن يتبلور؟ أليس الأحرى بالجميع النظر فيه من منطلقات تتعامل مع واقع جغرافي ومع مبادئ تكافؤ الفرص بين المواطنين أينما كانوا، والتحول بنقاط الخدمات إلى حيث المواطن لا العكس، وتحفيز روح المبادرة والاستثمار؟ وليكن بعد ذلك شكل الدولة ما يكون.

مناقشاتنا تبقى للأسف نظرية، وكذلك أسئلتنا: كيف يجب أن يكون التقسيم الإداري، محافظات أم بلديات، عددها .. إلخ، وقد شاركت مؤخرا في ندوة صغيرة، وترددت عبارات “يجب أن تكون .. “، ” علينا أن ..”، وغيرها. وكان تعليقي، أن هذه كلها أمور مشروعة وتفاصيلـها مهمة. لكن النقاش يدور كما لو كان في فضاء افتراضي، تعميمات تصدق على أي بلد في العالم. قد ننجـح في اخـتراع بضع مسميات لا أكثر. لماذا ؟ في اعتقادي لأن جوهر المشكلة سياسي وليس إداري. ماذا يحدث على أرض الواقع ؟ ما هي التطورات المحتملة؟ وكيف يمكن التعامل معها. هناك واقع جديد آخذ في التشكل. هناك نمط جديد لتوزيع السلطة، وتحديدًا ظهور كيانات شبه مستقلة ذاتيا، على نمط مصراته والزنتان. لماذا؟ بسبب مضاعفات الثورة نفسـها .. لوجود تشكيلات مسلحة محلية. هذه أمست المرجعية الحقيقية في كل منطقة. مثلا في قضية اختفاء الحبشي مؤخرا، المفروض أن ترهونة تبلغ الحكومة في طرابلس وهذه تحقق في اختفاء الرجل. لكن الذي حدث غير ذلك، والثوار المحليون هم الذين تصدوا للموضوع، بغض النظر عن خطأ مسلكهم. وأخيرا إن شكل الدولة الليبية القادم، سيتحدد على أساس موقع الثوار من السلطة. وهذه المعضلة لن تحل إلا بإشراك الثوار في السلطة، طبعا الذين قاتلوا حقا في الثورة. هذا على الأقل كبداية.

تشير في كتاباتك إلى ما تسميه بالإرث السنوسي. ما الذي تعنيه بالإرث السنوسي؟

من المفارقات الملـفـتة للنظر أن التشاحن والصدامات الجهوية ظهرت في الغرب .. في طرابلس .. كثير من المحللين كانوا يحذروا من القبلية في برقة. لكن ماذا نرى؟ برقة هادئة ومتناغمة. هذا التسامح والتعايش نابع أصلا من الدعوة السنوسية. هذا ما أعنيه بالإرث السنوسي. السيد محمد بن علي السنوسي، أسس الزوايا .. كانت تعلم القرآن وتقوم بالمصاهرات وتفض المنازعات. وتدريجيا أمسى العرف في بادية برقة أن تفض الخلافات حول الأرض أو الآبار أو القتل، بجلسات “المواعيد” ودفع الدية و”الحلف ع المرابط”. قد يحدث ثأر شـخصي. لكن النزاعات الجماعية لا تتحول إلى اقتـتــال. هذا المبدأ راسخ في تكويننا النفسي إلى اليوم.

باختصار، كيف ترى المستقبل؟

ليـبــيا حظهـا كويس. الدخل النفطي سيغطي احتياجاتنا ومشاريع التنمية .. وكذلك أخطاءنا ! سـتسـتمر الأمـور كركاشي، بإهـدار كثير من الوقت والمال. لكن الحركة سـتسـتـمر نحـو الأفضل، لأن المجتمع، الناس يريدون الاسـتقرار والازدهــار. للأسف هناك سلوكيات سلبية سوف تبقى معنا لزمن .. مثل الفساد المالي والمحسـوبية .. وغيرها. كل التعيينات بعد الثورة كانت على أساس المحسوبية (الصداقة، المنطقة، القـبيلة .. أو حتى الزمالة المدرسية)… على كل المستويات. سـلوك الموظف الليبي قائم على الانتـفاع الشخصي. هذا لن يختفي بسهولة.

وما هو الأسوأ في نظرك؟

أنا لا أرجم بالغيب. لكن دعني أسـتشـهـد بالتـاريخ: في أواخر العهد الملكي كانت الناس تريد التغيير بأي ثمن. وكنا نقول القادم لن يكون أسوأ . لكن ماذا حدث؟ نظام القذافي كان ألعن ألف مرة .. أرجو ألا تعيش الأجيال الشابة التي حققت الثورة حـقـبة أسوأ من عهد الطاغية. ولذلك علينا أن نكون حكماء في التعامل مع المشاكل. فالنزاعات الجهوية والقبلية قد تستغلها أطراف خارجية ولهذا علينا حلها بأقصى درجات التسامح وبسرعة.

وأخيراً، هل لا تزال متفائلا؟

ثمة أمل بالتأكيد. ربما سيدهـشـنا القادم مثلما أذهلتنا ثـورة فبراير. الأمل غير التحليل المنطقي طبعا. مساء يوم 15 فبراير، كنت مع المتظاهرين في ميدان الشجرة. مجرد مرافق عن بعد. وعند منتصف الليل عدت إلى بيتي مهمــومًا، خائفا عليهم وعلى بنـغــازي وكل من فيها .. فالشباب كانوا يهتفون بسقوط النظـام والقذافي عـدو الله. يا لـها من شـجاعة . لكنني وقياسـا على ماضي القذافي، توقعت الأسوأ طبعا .. الاعتقالات والدم والمشانق وتدمير المدينة .. ما تلى ذلك المساء كان عظيما ورائـعــا .. إذن ورغم كل ما قـلته .. وهو وصف حقيقي للواقع .. رغم ذلك علينا أن نكون متفائلين .. والشعب الليبي الذي أسقط أعـتى طـغـاة العصر، قـادر على تجـاوز المصاعب.

12/6/2012

مقالات ذات علاقة

عبدالحكيم المالكي: لدينا كتابا مهمين بعضهم ولد ومات دون أن يسمع به أحد عربيا

رامز رمضان النويصري

نجلاء شوكت..هويّتنا التراثية يجب أن يعاد إصدارها من مبدأ التجديد

مهند سليمان

تهاني دربي: أرفض أن أكون أداة في يد من يملكون السلاح

محمد الأصفر

تعليق واحد

فتحى 1 يوليو, 2012 at 16:21

شدنى كلأم الدكتور لما فية من الويا المستقبلية القريب من الواقع الليبى ولكن حضرتة تعرض الى وضع القوات
المسلحة بمثال العراق فقط واعتقد بانة وضعنا يختلف على العراق من حيث ادلوجية قواتنا ولكن الشئ الأفت للأنتباة بان الثوار لأ يرغبون فى اعطاء دور حقيقى لأفراد القوات المسلحة المنظمين للثورة وهنا تبرز عدة علأمات استفهام
اللة يوفق كل من يدعو ولو بكلمة خير من اجل ليبيا الغد

رد

اترك تعليق