أبى مفتاح عينى على الكتابة، فتحتها عليه، وهو يخط بقلمه مسجلا ما يمر به يومه، من قابل، ما أنجزه، ما اشتراه لعائلته، بمفكرته الصغيرة كالكراس، أو الروزنامة (التقويم) السنوية التى يحظى بها كل سنة، هدية من معارفه بقطاع اشتغل به هو التعليم، أو صداقاته التى قاربت قطاعات عدة، المفكرة (الروزنامة) مدونات أبي، ما سيمتلأ بها بيتنا (نحتفظ ببعضها إلى يومنا هذا)، وبتلك هى العلامات الدالة على حبه للتدوين والتوثيق، تتيح لنا المفكرة – نحن أبناءه – أحيانا، أن نعرف ما اشتره لنا في أعياد ومناسبات طفولتنا، ستينيات القرن المنصرم، فنجتمع لنقرأ بصفحة إحدى مفكراته: كُندرة (حذاء) بيضاء لخديجة = ثلاثة دنانير، بدلة كاملة لعبد الناصر = خمسة دنانير، سيفتح قوسا ( قميص، جاكيت، سروال، وحذاء، ومحرمة (منديل) يد رجالية)… وهكذا تشيع الضحكات بيننا، فقد كبرنا وصارت تلك الأسعار طى زمنها، ثم المباهاة بما حظى به أحدنا عن الآخر من مشتريات العيد، تَندُرا ليس إلا، كون والدانا ما أشعرنا يوما بمعاملة يفضل فيها أحدنا عن الآخر.
طالعت مرة، أقدم مفكراته، وتأملت جدول تبرعات لنادى الجنوب الثقافى الرياضى 1962م، الذى قاد تأسيسه ورفاقه، المتبرعون اسمًا اسمًا، يقابله المدفوع: خمسة قروش، عشرة قروش، ثم اسم محاط بمربع أحمر، لمن دفع «جنيهين» الإيجار الشهرى تطوعا، المفكرة بها أوراق صغيرة وردية اللون هى فواتير «وصولات» تسليم واستلام، لاحقا سأشرك عمى المفتش التربوى بمقترح، وهو أننا كجيل بحاجة لأن نعرف تاريخ صنعه بمثابرة وتواضع وإيثار من آمنوا بأدوارهم الأهلية والمدنية، فيتصدى عمى لكتابة توثيقية شارحة لحكاية تأسيس ذلك النادى ومهماته، والذى جمع أهل الجنوب ساعة نزولهم بعاصمة البلاد طرابلس، وسأنتبه لأثر أبى في عمى أصغر أخوته، كونه أيضا يكتب ويوثق، وسأنشر مقاله الموسع بجريدتى ميادين 2013.
ساعة وسع أبى دائرة توزيع الهدية «الرُزنامة» السنوية، لتشملنا نحن أبناءه الثلاثة الكبار، الزروق، وناصر، وفاطمة، كنت محظوظة بانحيازه، لأن أماثلهم، عنده بالاهتمام والعناية، وأن أكتب يومياتي، وهو من دربنى على أن أكتب موضوعاتى التى سألقيها بالإذاعة المدرسية، كما موضوعات مادة الإنشاء والتعبير سنوات المرحلة الابتدائية، ما نخوض نقاشا في النقاط التى تحكيها شفويا، أو تضعها المعلمة، كعناصر معينة على السبورة، لنتوسع في الكتابة عنها، العطلة الصيفية، العام الدراسي الجديد، الربيع، عيد الأم، ذكرى الوحدة،….،كثيرا مانصحنا أبى بمداومة تدوين يومياتنا، لكننا لم نُلق بالا لأهمية أن نكتب ذواتنا وما نفعل، انقطعنا عن ذلك بمجرد أن كبرنا، وكعادته معنا يترك لنا خيار ما نفعل، وذهبنا إلى تخصصاتنا الدراسية، ثم أكلتنا الوظيفة، وظل أبى يكتب في رزنامته كما لو أنه بمهمة واجبة، حتى وهو مريض حين قارب العقد الثامن من عمره، يتعالج بمصحة (بتونس) أخذ مذكرته، وسجل حالته المرضية، وسير الخدمات المقدمة له من الأطباء والممرضات، فحوى اتصالاتنا اليومية به، الأحداث في ليبيا، ما زالت ذكرياته مختزنة، نعيد قراءتها من حين لآخر، كلما نفضنا الغبار عن مكتبته العامرة، التى اتخذ عندها طاولة وكرسى وخصها بساعات يومه عند تقاعده.
والدى المحب لاقتناء ومطالعة الجرائد والمجلات، ولكُتاب محليين كان من متابعى مقالاتهم، ما أعداد من صحف محلية قديمة ما زال بعضها مُخزنا بحقيبة، تلقاها هدية، وأعجبته، إذ بها أدراج تُعين على توضيبها كما يحب، حكى لنا أبناؤه عن كتابته مقالين في آخر ستينيات القرن المنصرم، كان أحدهما بجريدة «الحرية» ردا على الشيخ «الطاهر الزاوي» المؤرخ المعروف (مفتى ليبيا)، حين كتب بما معناه أن أهل الجنوب أهل دعة وكسل، بسبب طبيعة المناخ، فضرب له أبى أمثالا لرموز ونماذج فاعلة من رجالاتها، ولمن ينهضون فجر يومهم لأجل زرعهم ونخيلهم وشياههم، النساء كما الرجال، وأنه يجرى تربية الأبناء على ذلك، فلا حياة دون عمل لكسب رزق داخل واحتهم التى حرها بلا رطوبة، ما يجعل هواءها جافا منعشا، مع تلطيف عيون المياه، وغابات النخيل التى تعد بالآلاف.
هذه الحكاية وغيرها، ستجعل خيارى في دراستى العليا بالعلوم الاجتماعية، ماسأهديه لوالدى المحب والمدافع عن واحته براك/جنوب ليبيا، وبدعمه سأجمع حكاياتها الشعبية في أول دراسة ميدانية بحثية تنشغل بحكايات ليبيا.
المنشور السابق
المنشور التالي
فاطمة غندور
كاتبة وباحثة ليبية أصدرت ثلاثة كتب منها إصدار عن الحكاية الشعبية في ليبيا، تعمل في المجال الصحفي كمدير عام لجريدة "ميادين" المستقلة التي صدرت من بنغازي في مايو 2011
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك