كعادته منذ أكثر من ثلاثة عشرة سنة، يخرج من المسجد بعد صلاة العصر، يسير على الرصيف المحاذي للمسجد، المسجد على يساره والطريق على يمينه، حتى نهاية السور المحيط بالمسجد، تم يستدير يميناً، ينزل من الرصيف ويقطع الطريق، بمجرد أن يقطع الطريق تقابله مكتبة النجاح، يفتح الباب ويدخل، ” السلام عليكم…نهاركم مبارك “، ” وعليكم السلام…نهارك أبرك “، يأخذ نسخة من الصحيفة نفسها، يدفع ثمنها، ويخرج، يسير في الطريق المحاذية للمكتبة حتى نهاية الشارع، يدخل المقهي الموجود في نهاية الشارع، ” السلام عليكم…نهاركم مبارك “، ” وعليكم السلام “، يتجه إلى نفس الطاولة في نقس الزاوية ويسحب نفس الكرسي ويجلس، يضع الصحيفة بين رجليه، يخرج علبة السجائر، يأخذ منها سيجارة يضعها في فمه يشعلها ثم يضعها في زاوية فمه اليسرى، يضع علبة السجائر على الطاولة.
يحضر له عامل المقهى قهوته التي اعتاد شربها منذ سنوات بدون حتى أن يطلبها ( قهوة عربية سكر وسط ) يضعها العامل على الطاولة مع كوب ماء، يأخذ الفنجان يرتشف منه رشفتين متتاليتين ثم يضع الفنجان في صحنه على الطاولة ويزيحه قليلاً، ثم يأخذ الصحيفة ومباشرة يتجه إلى الصفحة قبل الأخيرة حيث الكلمات المتقاطعة، يطوي الصحيفة ويجعل الصفحة قبل الأخيرة هي الصفحة الأولى ويضعها على الطاولة، يخرج قلم الحبر الجاف من جيبه، يضعه في يده اليسرى، ثم يأخذ الفنجان ويرتشف رشفة أخرى، ويضع الفنجان في صحنه-نفس الخطوات ونفس الحركات ونفس الافعال منذ أكثر من عشر سنوات لم يتبدل شيئاً-ينحني باتجاه الصحيفة، ويبدأ بحل الكلمات المتقاطعة، ودائماً كان يقول في نفسه بعد أن ينظر إلى أسفل الصفحة ” لولا الكلمات المتقاطعة مانشريهاش الجريدة هاذي بكل “، ثم يقوم بثني الصفحة إلى إثنتين، فقد كان النصف الأسفل مخصص لإعلانات الوفيات.
بدأ في حل الكلمات، لم يجد صعوبة في حلها لخبرته الطويلة ولحبه الشديد لهذه اللعبة.
إنتبه إلى السيجارة الموجودة بزاوبة فمه اليسرى أخذها قام بنفضها في المنفضه وأعادها إلى زاوية فمه اليسرى بعد أن أخذ منها نفساً عميقاً.
إستمر في حل الكلمات ولم يجد صعوبة تذكر حتى وصل إلى الصف السادس، فقد كانت الشبكة تتكون من عشرة صفوف وعشرة أعمدة، في الصف السادس كلمة من خمسة أحرف كلما زاد نقص، فكر قليلاً، غابت عنه الكلمة، أخذ نفساً عميقاً من السيجارة، إرتشف رشفة أخرى من فنجان القهوة، ” كلما زاد نقص…شنو هاذا “، كان أخر الكلمة يتقاطع مع أول كلمة أخرى وهي : شئ يوجد في الصحراء بكثرة من أربعة أحرف، قال في نفسه ” يوجد في الصحراء بكثرة…رمال…من أربعة أحرف “، وضع كلمة رمال في مكانها، وعاد إلى نفس الكلمة : كلما زاد نقص، الأن أخر الكلمة أصبح معروفاً حرف ( الراء )، فكر…فكر…غريب لقد ضاعت منه الكلمة، كان أول الكلمة يتقاطع مع أول كلمة أخرى هي : أحد الوالدين من حرفين، ” هذه سهلة إما أب أو أم ” هكذا قال في نفسه، إذا الكلمة تبدأ بألف وتنتهي براء.
ضاعت منه الكلمة تشتت ذهنه سحب نفساً عميقاً من السيجارة أخذ رشفة أخرى من القهوة، فتح كامل الصفحة، وضع عينه في الجزء المخصص للوفيات بدون قصد، فهو لا يحب أن يقرأها، ووجد أمامه صورة شاب مكتوب تحتها شاب في مقتبل العمر يفارق الحياة، لم يكمل القراءة، قال في نفسه ” الله يرحمه “.
عرف الكلمة، فهي تبدأ بألف وتنتهي براء وهي من خمسة أحرف وهي كلما زاد نقص ” إنها العمر بالتأكيد “، وضع الكلمة في مكانها في الشبكة، فقد كانت هي الكلمة المطلوبة، وتنهد تنهيدة طويلة، وتذكر سنوات عمره السبعة والخمسين، وقال في نفسه ” سبعة وخمسين أشبح قداش مازال…الله أعلم “، دخان السيجارة الموجودة بزاوية فمه اليسرى يتصاعد، قال في نفسه ” إيييه الله أعلم قداش مازال…إن شاء الله عالطاعة والشهادة…لكن حتى أنى مش مغفل…سبعة وخمسين سنة…وقاعد حاط السبسي في فمي…أشبح قداش مازال في عمري ومازلت إندخن…كان فيه شن بيهلكني هو الدخان…أكيييد الدخان بيهلكني…لا لا خلاص من اليوم الدخان لا..من اليوم خلاص “.
قام من كرسيه وإتجه إلى سلة القمامة ووضع بها علبة السجائر ورجع إلى طاولته ومسك الصحيفة وبدأ يكمل حل الشبكة.
المنشور السابق
المنشور التالي
خالد مصطفى كامل سلطان
خالد مصطفى كامل سلطان.
مواليد العام 1967.
ماجستير نظم معلومات.
متقاعد.
يكتب: خاطرة - قصة قصيرة - شعر.
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك