18- عبير القلق
وها اليوم الخامس والعشرين من اغسطس يعبر أيضا ولكن هو يوم ميلاد الصديق المبدع صاحب (بلد الطيوب) “رامز رمضان النويصري”، رسالة بالهاتف للتهنئة فالكهرباء مقطوعة والشحن والنت ولكن ثمة عيش ومواصلة التغلب على التعب.
والبنت التي بدأت تراسل الصحافة وتحديدا (صحيفة الجماهيرية) لتنشر أول مقالاتها في أغسطس عام 1982، وووواااااوووووو. عمر طويل هذا الوقت وأول نص شعري عام 1983، وصحيفة الطالب ستكون الصحيفة الليبية الثانية التي أتعرف إليها وأكتب بها، قبلا عرفتها مجلة بعدد وحيد على غلافه لوحة جميلة لسيدة ليبية أو لوجهها بتفصيل أكبر وهو عدد بحجم كبير، وظل لسنوات عندي حتى ضياعه في حملة من حملات أمي على (الورق الزايد اللي يجيب الفيران).
ولكن هل أستطيع كتابة هذه السيرة دون الحكاية التقليدية عن بنت كانت تحلم بدخول الثانوية ثم الجامعة.
كانت معاهد المعلمات (العام والخاص) هي الاختيار الذي رضي عنه المجتمع، وخاصة وأنا بنت من (سوق الجمعة)، كان ثمة مدرسة وحيدة اسمها (أم المؤمنين) ومازالت تحمل نفس الاسم، ورغم التقدير البائس الذي نلت به الشهادة الإعدادية (مقبول)، ولكن كنت طامحة لإكمال مسيرتي التعليمية بالثانوي والجامعة، وطبعا كنت أريد أن أدخل (كلية الحقوق)، وهكذا ذات يوم من شهر أكتوبر من عام 1978م، حملت تلك البنت حواء ملفها المدرسي، ارتدت ذاك الفستان بلون أخضر خفيف ومخطط بخطوط طولية بيضاء، كمّي الفستان قصيران ولأنها ترتدي الحجاب لبست بلوزة بلون مناسب وبنطلون على الموضة (واسع من تحت) وايشارب مناسب في اللون، كان الطقس في تلك السنوات حيث الخريف غدق بالمطر، مازلت اسمع خطواتي نازلة من الدرج والجو الخريفي يضفي تلك المسة الفضية، رائحة الهواء المشبع والشارغ خالي خطوات وتبدأ قطرات المطر تنهمر بقوة، فأدخل (كابينة هاتف) موجودة غير بعيد عن بيتنا، يتدفق المطر وبهجتي تزيد وعيناي تنظران لبيتنا فأجد أمي ترقبني من شباك يطل على الشارع تبتسم وأبتسم، تتوقف المطر وأواصل الخطوات ولا أتذكر هل ركبت (الحافلة) أم أكملت الطريق على قدميّ حتى وصلت، وصلت إلى مدرسة (أم المؤمنين الثانوية للبنات).
دخلت الإدارة وسلمت ملفي كان مدير الثانوية شابا، أرشدني إلى فصلي دخلت إليه وجدت مجموعة من الطالبات بالزي المدرسي، البلوزة البيضاء والجيليه والبنطلون الرمادي (مازلت أحلم حتى اليوم بارتدائها)، اخترت مقعدا ونظرت إلى السبورة وانتبهت للتاريخ (10/10/1978) هل كان تاريخ اليوم السابق لست أدري ما أتذكره أن اليوم كان ثلاثاء، ثم دخول معلم من لهجته ومن معلومة قالها عرفت أنه من (سوريا)، كان معلم اللغة العربية، وأعطانا فكرة عن المنهج ومراجعة لفتت إلىَّ الإنظار، كنت الأكثر استجابة وتفاعلا وإجابة واهتماما أبهج المعلم فأثنى عليّ، وبذاك اليوم وزعوا علينا كتبنا الدراسية تقريبا (حداش كتاب)، وخرجنا فترة استراحة ولا أدري ما الذي جعل الطالبات اللواتي مع في الفصل يتجادلن حول (جنسيتي)؟! وهكذا صار حديث بيننا وضحك فأنا بنت ليبية من سوق الجمعة، فما الذي أوحى إليهن أني كما تقول واحدة (شكلك من سوريا)، والثانية (لا هي كأنها تونسية).
لماذا تساءلت: لبستك ولهجتك تكثري في العربية “ههههه”.
ضحكنا وافترقنا على أمل اللقاء غدا، وحملت تلك البنت كتبها احتضنتها وبدأت خطواتها إلى البيت، المسافة وهي خفيفة ليست كالمسافة وهي تحمل تقريبا عشر كتب أو أكثر، ولكن لم تشعر إلاَّ بالخفة لأنها كانت تحلم حتى أنها غنت (وحياة قلبي وافراحه)، أحسَّت بعض تعب لكنها أكملت الطريق وصعدت الدروج، وتحديدا قبل أن تكمل ربما ثمة أربع درجات لتصل إلى باب البيت نظرت من وراء كتبها، كان أخوها (الكبير) ينتظرها وسألها وأخبرته أنها سجلت، ووو، ولكن جملة نطقها جمّدتها ولم تفهم فحواها: (بوك حلف بالطلاق ما تخشي الثانوي).
ردت ببساطة: (حلف بالطلاق والله ما حلفش شن دخلي).
أجابها: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة جدهن الجد وهزلهن الجد، الطلاق ووووو ..).
أكملت باقي الدرجات، قابلتها أمها خارجة من المطبخ وشمّت رائحة طبيخها الفايح، دخلت غرفتها أغلقتها ليبدأ البكاء والتساؤل: هي تعرف أن أبيها لن يحلف هكذا إلاَّ إذا كان ثمة من … (ستعرف بعد شهور أن خالها وأخيها، هما من نبها أبيها أن دخول الثانوي معناه الجامعة والجامعة؟!).
ولكن في لحظتها تلك، ظلت تتذكر كيف كان أخيها الكبير هو من يحرس شغفها للعلم ويشجعها، كيف وجدها ذات يوم تتخاصم مع ذاك الأخ …. كانت بالصف الخامس الابتدائي، وحين دخل عليهما أخبرته أنه يقول لها: (توة نبطلوك من الصف السادس). ضحك وربتَّ على كتفها وقال: حوا تقعد تقرا زي ماتبي!
وكيف بدأت تضحك من التعبير الذي ظهر على وجه ذاك الغاضب من هذه الإجابة، لكنها أيضا تتذكر وهي بالصف الثالث إعدادي حين جاء أخيها في عطلة من دراسته بجامعة (قاريونس) وصار حديث ما، وكيف صرَّحت عن رغبتها في أن تكون في مثل تخصصه حين تدخل الجامعة، ولكن نظر إليها مستنكرا وقائلا: أي جامعة؟!!
لم تهتم حينذاك ولكن ها هي الآن تتساءل عن سر التغيير؟!!
ما الذي في الجامعة؟! يجعل أخيها والذي كان يراسلها من هناك من جامعة بنغازي، رسائل خاصة لها عن طريق بريد منطقتهم وكان أبيها هو من يأتي بتلك الرسائل. ما الذي حدث يا حواء، بقيتُ أياما حزينة لا أخرج من غرفتي حتى طرق أبي الباب وسألني: خيرك يا حوا؟!
فأجبت بحدّة: مافيه شي أني قاعدة في الحوش!!
وهكذا ذات عشية مازلت أتذكرها كأنها اللحظة وأنا في المطبخ، أقطع دجاجة لإعداد العشاء وكنت أبكي، دخل أخي الكبير ليفاجأ بدموعي ويتساءل: هذا كله على خاطر الثانوي؟!!
فقلت: انتم بتقريرولي مصيري؟! (هذه من كوارث القراءة المبكرة)
فأجابني: انت توة تتكلمي زي الغرب الملحد؟!!!
و”حواء” بنت متدينة تصلي وتلبس الحجاب وتحب الله ورسوله، أرعبتها الجملة والتي زادت في حجم بكائها وانزوائها بغرفتها. لقد قررت أن تظل بالبيت ولن تدخل أبدا (معهد المعلمات) المعهد الذي لا يبعد كثيرا عن بيتهم، والذي كان به مدرسة إعدادية درست بها الصفين الأول والثاني إعدادي، ولكن ها هي صارت معهدا فقط.
(أضاعوني وأي فتى أضاعوا..
ليوم كريهة وسداد ثغر)
كان هذا البيت من قصيدة “أبي فراس الحمداني” هو لسان حالها تلك البنت التي عادت لمدرسة (أم المؤمنين) لتأخذ ملفها، وتعود حزينة عبر تلك الطريق التي نظرت إليها عبر ظهيرة أشرقت فيها الشمس بعد المطر، وصعدت الدرجات بجناحين طليقين وذهبت إلى غرفتها مهيضة الجناح.
ما الذي جعلها تأخذ هذا الملف وتذهب مسرعة إلى معهد المعلمات؟
كان بيتهم الجديد يستقبل الأقارب للتهنئة بدخوله، وكانت زيارة ابنة خالة أمي وأبي “وردة” ومعها كنتها، وكانت الجلسة الأثيرة حول (عالة الشاهي) وإعدادي للعشاء وحديث من هنا وهناك، وأخبرتهم أمي أني أرفض دخول المعهد وووو، ببساطة شديدة تلك الكنّة قالت: (علاش وخيره المعهد تطلعي معلمة).
ولكن أبديت استنكاري وربما تكبري، فقالت ببساطة: (خلاص عام والله اتنين وتاخدي راجل…)، وهكذا في صباح اليوم التالي حملت ملفي وسجلت بمعهد (عشرة مارس للمعلمات).