سألني الزميل الدكتور إبراهيم الشريف، ومن قبله الزميل الدكتور خالد الزغيبي، عن هالة الغموض التي تكتنف ما أكتب. وهذه تهمة عادة ما أرمى بها، حيث يعاب علي انتقاء الكلمات والعبارات الصعبة التي يعجز البعض عن فهمها. وبودي أن أبين بداية أنني ضد موقفين متطرفين من هذه المسألة.
الموقف الذي يضيّق على الكاتب، ويقيّد رحب مخياله بما توفر لدى المتلقيين من قدرة على الفهم، وتنوعٍ في الأساليب، وثراءٍ في المفردات، مغفلا أن هذه القدرات قد تتعدد بعددهم، وأن ما يسهل على بعضهم قد يُجهد سائرهم. والموقف الذي يسمح للكاتب بإطلاق العِنان لبيانه، وبالهذيان والإمعان في طلسمة أفكاره، مغفلا أنه يكتب على أمل أن يفهم الآخرون ما يقول.
وفي تقديري أن كلا من هذين الموقفين يتغاضى عن أن هناك سياقاتٍ الوضوحُ والدقة والمباشرة فيها منقبة، التشريعات القانونية مثلا؛ وسياقاتٍ الوضوحُ والدقة والمباشرة فيها مثلبة، النصوص الأدبية مثلا. والتنصل من مسؤولية الفهم والإفهام، بما تستدعيه من كدّ وكبَدٍ، متوقعة من الكاتب والمتلقي بمقتضى ميل النفس البشرية إلى الاستسهال والدعة.
ذلك أن الفهم، كالإفهام، يتطلب تفكرا، والتفكر ممض، يصيب صاحبه بالعنت. والخطاب الفلسفي، الذي يشكل في الغالب موضع عنايتي ومناط شكوى القراء، يحتاج أحيانا إلى أن يعبَّر عنه بألفاظ بكر لم تلكها الألسن، مخافة أن تشوبها دلالات ارتبطت بها تُلزم صاحبها بمواقف لا يحبذ اتخاذها. فإذا كان حال صاحب الخطاب الفلسفي كحالي، كاتبا دأبه الوقوع في الغرام بجرسية الألفاظ، ويبدى استعداد للتضحية بالفهم تلزفا للجمال، فإن فرص عوز الفهم من جانب المتلقي سوف تكون أوفر حظا.
غير أني ما عمدت يوما إلى أن أعكر صفو أسلوبي لمجرد أن تبدو مياه ما تعبّر عنه من أفكار أكثر عمقا. وفي النهاية، فإن أسلوب الكاتب سمة من سماته المميزة، وحتى إذا طرأ عليها تغير، فإنها يظل ضمن سماته، بحيث إذا قرأت نصا له لم يمهر باسمه عرفت أنه كاتبه. والكاتب لا يستطيع أن يتكلف تغيير أسلوبه، بل يأتي التغيير عفويا وخلال فترة من الزمن، ربما استجابة لأسئلة من قبيل تلك التي طرحها الزميلان.
ولعل المتتبع لما أكتب يستشعر الفرق بين أسلوبي في “أوهام الخلط” و”تقريظ العلم”، وبين أسلوبي في “نتح الكمال” و”نوستالجيا”. فهل تراني، بقول ما قلت، دفعت عن نفسي تهمة الغموض، وأجبت عن سؤالهما؟ أم تراني عبّرت بأسلوب غامض عن براءتي من الغموض؟
المنشور السابق
المنشور التالي
نجيب الحصادي
نجيب المحجوب الحصادي (25 أغسطس 1952)، أكاديمي ومترجم ليبي، له العديد من المؤلفات، يشغل كأستاذ في جامعة بنغازي.
المؤهلات العلمية: درجة الليسانس من الجامعة الليبية قسم الفلسفة، عام 1973. درجة الماجستير من جامعة جورجتاون عام 1977. درجة الماجستير من جامعة ويسكونسن-ماديسون عام 1979. درجة الدكتوراه من جامعة ويسكونسن-ماديسون، عام 1983.
مؤلفاته: أوهام الخلط (جامعة قار يونس، ليبيا، 1989). تقريظ المنطق (جامعة قار يونس، بنغازي، 1989). تقريظ العلم (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1990). نهج المنهج (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1991). ليس بالعقل وحده (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1992). معيار المعيار (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 1992). أسس المنطق الرمزي المعاصر (دار النهضة العربية، بيروت، 1993). آفاق المحتمل (جامعة قار يونس، ليبيا، 1994). جدلية الأنا-الآخر (الدار الدولية للنشر، القاهرة، 1996). الريبة في قدسية العلم (جامعة قار يونس، بنغازي، 1998). قضايا فلسفية (الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، ليبيا، 2004). مهارات البحث العلمي (مع خلف نصار وبسام عتيلي) (جامعة الإمارات، 2005). نتح الكمال (مجلس تنمية الإبداع، 2008). كتاب الأغاليط (جامعة قاريونس، ليبيا، 2010). دراسات في الوعي الأخلاقي والعلمي (جامعة قاريونس، ليبيا، 2010)
الترجمات: كيف يرى الوضعيون الفلسفة (دار الآفاق، المغرب، 1994). نظرية المعرفة (الدار الدولية للنشر، القاهرة، 1996). قراءات في فلسفة العلم (دار النهضة العربية، بيروت، 1997). رجال الفِكَر (جامعة قار يونس، ليبيا، 1998). المنتسخة (The Clone) (مشترك مع أ. بالقاسم الشتيوي)(الإدارة العامة للمعاهد، ليبيا، 2000). من وجهة نظر منطقية (مجلس تنمية الإبداع، ليبيا، 2004). إشكاليات فلسفية في العلم الطبيعي (الهيأة القومية للبحث العلمي، ليبيا، 2004). دليل أكسفورد الفلسفي (الهيأة القومية للبحث العلمي، ليبيا، 2005). التفكير الناقد في القضايا الأخلاقية (الهيأة القومية للبحث العلمي، ليبيا، 2005). التفكير الناقد: طرح الأسئلة المناسبة (دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007). الجسد والنظرية الاجتماعية (دار العين، القاهرة، 2009). مبدأ الريبة (دار العين، القاهرة، 2009). النظرية السياسة (مشترك مع د. محمد زاهي بشير المغيربي) (منشورات جامعة قار يونس، 2009).
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك