من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
المقالة

قتل الابناء

من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي
من أعمال التشكيلية فتحية الجروشي

تظهر صورة «كرونوس» في الأساطير القديمة كوحش برأس إنسان يلتهم أبناءه واحدًا تلو الآخر, الاسطورة تقول انه يفعل ذلك بابنائه خشية ان يفعلوا به مافعل بابيه ليبدو نقيضًا لصورة الأب الشائعة، فلقد ظل الأب يصور ويظهر ويعيش حسب قوانين البايولوجيا والحفاظ على النوع، يضحي ويموت ليحيا الأبناء وتستمر الحياة، فالأبناء هم المستقبل وهم الاستمرار الطبيعي للبشرية وللأبوة وللماضي أيضًا.

في قصة قصيرة للكاتب الليبي «عمر أبو القاسم الككلي» يلقي أبٌ بابنه من شقته الواقعة بدور مرتفع في عمارة بطرابلس في لحظة يأس وقنوط.
عام 1973 كتبت مسرحية «عندما تحكم الجرذان» وفيها يقرر «الجرذ الأكبر» قتل كل المواليد الجدد لأن عراف مملكته أنبأه بأن طفلاً يولد ليقتله ويستولي على عرشه، وفي أحد مشاهد المسرحية يقتل» الجرذ الأكبر» طفله الوليد، فربما يكون هو قاتله والمستولي على عرشه، فالسلطة تعطل حتى قوانين البايولوجيا وتحاول توجيهها لما تريد!!
في معابد الفنيقين القديمة عُثر على مقابر كبيرة لقرابين بشرية، من الشباب والفتيات كانوا يقدمون كقرابين لآلهة نهمة للدماء.

المسيح يصور في بعض القصص المسيحية «كخروف قربان» للرب!!
تقول صحابية عن ابنها بعد قتله والتمثيل بجسده «لايضير الشاةَ سلخُها بعد ذبحها» ويردد المتشددون «أتقرب به إلى الله» أي أقدمه قربانًا لله!!
في مسرحية «سوء تفاهم» للفرنسي «ألبير كامي» تقتل الأم ابنها وتشاركها شقيقته في ذلك القتل، ورغم عدمية «ألبير كامي» فإن ذلك القتل يبدو أقل رعبًا من قتل أم ليبية لابنها، فتلك الأم تقتل ابنها العائد من الهجرة، لأنه سكن بفندقها متخفيًّا في ملابس رجل غني، وأراد مفاجأتها في الصباح، ولكنها وبشهوة الحصول على المال قتلته، لتكتشف أنه ابنها الغائب منذ سنوات.

قتل الأبناء، على مايبدو، كان ظاهرة ليست عادية فقط، بل مبجلة ومقدسة، حتى فداهم الله بكباش الأضاحي، الذي يبدو أنه لم ينهِ تمامًا هذه الظاهرة المرعبة.
منذ شهور قليلة أطلق أب النار على ابنه وأرداه قتيلاً، أعرف هذا الأب وهو من جيلي ومن قريتي، هو رجل عادي ولا يختلف عن كل الآباء الليبيين كما يبدو.
غير بعيد عن سكن هذا لأب، شهرت أم بندقية في وجه ابنها الوحيد وقتلته، ودخلت في صمت رهيب، رافضة الكلام، ولاشيء يصدر عنها غير الدموع والحسرة.

الغريب في أمر هذين الوالدين، تلك السكينة الغريبة التي تظهر عليهما، رغم هول ما جرى!!
رغم ما يُروى عن طقوس الاحتفال بقتل الأبناء أثناء تقديمهم كقرابين عند أقدام الآلهة الوثنية، النهمة للموت والدماء، ورغم زغاريد الأمهات عند قتل أبنائهن في حروب الثأر والذود عن الحياض، رغم التهليل لموت الأبناء الذي ظلت البشرية تحتفظ به وتمارسه، فإن سكينة الأب والأم الليبيين اللذين قتلا ابنيهما، تبدو غريبة ولافتة، فلم يُقتل الابنان في معركة للذود عن العائلة أو القبيلة أو الوطن، بل قُتلا هكذا، في لحظة غضب وهستيريا تبدو موجودة بشكل دائم وجاهزة للانفجار في أية لحظة، هستيريا يحكمها نهم «كرونوس» لالتهام أبنائه، ورغبة أبوية متخفية لقتل الأبناء وتأجيل المستقبل، المتجلي كنهاية للآباء في أولئك الأبناء.
الحروب ورغم قدسيتها أحيانًا وعبثيتها في أحيان كثيرة، تفتح صناديق هذا الإرث البشري المرعب وتطلق العنان، لتلك الرغبة الخفية، رغبة «كرونوس» في التهام أبنائه الصغار، سواء بإلقائهم من دور مرتفع في عمارة بطرابلس، أو بإشهار البندقية وقتلهم هكذا، من أجل سكينة وهدوء غريبين، أو بدفعهم إلى الحرب والتقاتل وإقامة مراسم دفنهم وإطلاق الزغاريد على جثامينهم.

رغم ما ذبحه الآباء من أبناء وقدموه كقرابين لشعارات مختلفة ومتناقضة، فإن الحيز الأكبر من إنتاج علماء النفس والأدباء والفنانين والنقاد والمؤرخين، يكرس فكرة قتل الأب، وأسطورة «أوديب» متناسين أسطورة كرونوس وقتل والتهام الأبناء.
لقد ظلت القبائل والمدن والدول تفتخر بتقديم خيرة شبابها على مذابح متنوعة ومتناقضة وأحيانًا على مذابح العبث والهوس ومناورة على صراع الأجيال، وقتل المستقبل، وكبح عجلة الزمن عن الدوران والتقدم.

مقالات ذات علاقة

مذكرات د. علي عتيقة و “المقارنة المؤلمة”

سالم العوكلي

المثقفون الجدد والمشهد الثقافي (2)

الحبيب الأمين

خشية الإغراق في النسيان

محمد دربي

اترك تعليق