قد يتاح للطغيان أفقاً جغرافياً باتساع رقعة الصين والاتحاد السوفييتي أو ألمانيا واسبانيا والبرتغال وإيطاليا، وقد يتمدد أيضاً على خارطة العراق و… حتى عندنا على رقعة الأرض الليبية، لكنه في كل أحواله ومهما يكن حجم الأرض التي يستحوذ عليها، فمن حيث الفكر والأخلاق، يظل محصوراً في حدود سرير بروكروست، مشغولاً به وبملئه بمن ينبس بنأمة تنبئ عن الامتعاض منه والضيق بوجوده، ليقينه من أنه لا مناص له من أن يملأه بجثته الزنخة، وأن يتمدد عليه عند نهاية كل الأشواط.
ولأنه باطل (ومغاير للحق الذي ليس له سوى وجه واحد وضيء، لا يحول ولا يتبدل في كل أحواله مهما اختلفت عليه الظروف وتبدلت)، فشأن كل باطل، لا حصر لوجوه الطغيان الصفيقة.
وفي الفصل الثالث من كتاب (الطاغية) يجمل المؤلف الدكتور إمام عبدالفتاح إمام بعضاً من أبرز وجوه الطغيان وأشهرها، ويحللها محاولاً إبراز اهم ما يميز بعضها عن بعض، وإن إلتقت جميعاً عند ذات الجوهر المأفون. فهو يحدثنا عن : –
أولاً الطغيان
من حيث هو أقدم النظم السياسية في اليونان وفي الشرق، وكان الشاعر اليوناني (أرخيلوخوس) أشهر شعراء اليونان في الهجاء، أول من استعمل كلمة (طاغية Tyranno) وقد اطلقها على الملك (جيجز Gyges) ملك ليديا الذي أطاح بملكها السابق واستولى على العرش، وفي تتبعه لمعنى الطاغية والطغيان، يتنقل بنا المؤلف بين قصة ديورانت للحضارة ودائرة معارف البستاني، ومن اليونان القديمة إلى القبائل التركية القديمة التي عاشت في تركستان الحالية، التي كان الفرس يطلقون عليها اسم (توران )، فكان اسم توران أو تورانية اسماً لجنس القبائل المتوحشة، وصار (توران) يلفظ عند اليونان (تيران) ومعناها طاغية أو عاتٍ، إلى ذلك فإن لفظة (ترك) عند العثمانيين مرادفة لكلمة بربري. وينقل عن البستاني في دائرة معارفه، وتحت مادة طاغية (يقال طغى فلان – أي أسرف في المعاصي والظلم، والطاغية = الجبار، والأحمق، والمتكبر، والصاعقة، والمراد به من تولى حكماً فاستبد وطغى، وتجاوز حدود الإستقامة والعدل، تنفيذاً لمآربه فيمن تناوله حكمه أو بلغت سلطته إليه )
ويصل بنا إلى فلاسفة القرن الرابع قبل الميلاد، وما قاموا به لاسيما أفلاطون وأرسطو من تفريق بين لفظي (ملك) و (طاغية )، فلفظ ملك يطلق على الحاكم الخَيِّرِ الصالح، في حين تطلق كلمة طاغية على الحاكم الفاسد والشرير، وننتهي في هذه الفقرة المخصصة للتعريف بالطغيان ألى أنه ومن حيث الشكل الدستوري لهذا الضرب من، فإنه لم يكن للطغيان دستور، ولا للطاغية مركز رسمي محدد، فإذا ما أطلقت عليه تسمية ملك أوزعيم أو قائد أو طاغية، فلا أهمية لذلك، لأن المحور الاساسي لذلك كله هو التسليم بتسلطه، وبتمركز كل السلطات في يده، فلا قانون إلا ما يصدره من أوامر.
وبالخلاصة يمكن تلخيص أهم السمات العامة للطغيان، التي يمكن استخلاصها من تاريخ طغاة اليونان قبل ظهور الفلسفة في النقاط التالية :
1 – الطاغية يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع، وذلك باغتصابه عن طريق التآمر أو الغلبة أو الاعتيال أو القهر.
2 – لا يعترف الطاغية بقانون أو دستور في البلد الذي يتسلط عليه، بل تصبح نزواته وارادته هي الدستور.
3 – يسخِّرُ الطاغية كل موارد البلاد لاشباع نزواته ورغباته وملذاته التي تكون عادة حسية.
4 – ينفرد الطاغية وفي جميع العصور بخاصية أساسية، هي أنه لا يخضع للمحاسبة ولا للمساءلة ولا للرقابة من أي نوع.
5 – يقترب الطاغية بتلك الخصائص من التأله، فهو يرهب الناس بالتعالي والتعاظم عليهم، ويذلهم بالقهر والقوة وسلب المال، حتى لا يبقى لهم سبيل إلا التزلف إليه وتملقه.
ثانياً الاستبداد
ان كلمة (المستبد Despot) مشتقة من الكلمة اليونانية (Despotes) التي تعني (رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد على عبيده )، وقد خرجت من هذا النطاق الأسري، لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق، الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبناءه في الأسرة أو السيد على عبيده، ويؤكد المؤلف عند هذه النقطة أن الخلط بين وظيفة (الأب) التي هي مفهوم أخلاقي، ووظيفة (الملك أو الحاكم) التي هي مركز سياسي، يؤدي إلى الاستبداد، ويذكر باستخدام بعض الحكام في دولنا تسمية (الأب) وسيلة للضحك على السذج.. فالحاكم (أب للجميع) أو (كبير العائلة )، وما إلى ذلك من الترهات، وذلك يعني أن يحكم حكماً استبدادياً – لأن الأبَ لايجود – أخلاقياً – معارضته، فقراره مطاع، واحترامه واجب مفروض على الجميع.
يُنْقَلُ هذا التصور الأخلاقي إلى مجال السياسة، ويتحول إلى كبت للمعارضة أيّاً كان نوعها، وتصبح الانتقادات التي توجه إلى الحاكم – عيباً -، فنحن في الواقع الاستبدادي ننتقل من الأخلاق إلى السياسة، ثم نعود من السياسة إلى الاخلاق، وذلك في محاولة لتبرير الاستبداد.
ويشير المؤلف بعد ذلك إلى أن مصطلح (المستبد) ظهر أول مرة إبان الحرب الفارسية الهللينية في القرن الخامس قبل الميلاد وإلى أن (أرسطو) قد طوره وقابل بين (الاستبداد) و (الطغيان) ليقصر الاستبداد على النظام الملكي عند البرابرة ويميزه بأنه يتسم بخضوع المواطنين للحاكم بارادتهم، وتتميز به نظم الحكم الاسيوية التي تقوم على رضاً وقبول ضمني من الرعايا، ليخلص إلى أن المستبد وفق ارسطو هو -ا – رب الأسرة – ب – السيد على عبيده – ج – ملك البرابرة الذي يحكم رعاياه كالعبيد.
ويقول الدكتور إمام أن الأباطرة البيزنطيون هم أول من أدخل مصطلح (المستبد) في القاموس السياسي، كلقب شرف كان الامبراطور يخلعه على ابنه أو زوج ابنته حين يعينه حاكماً على إحدى المقاطعات.
ثم يواصل تتبع التطورات التي لحقت بمصطلح الاستبداد، وما لحقه من تغييرات وتحويرات في دلالته، وذلك بالقاء الضوء على آراء بعض المفكرين والفلاسفة الذي تطرقوا إلى البحث في موضوع الاستبداد مثل ماكيافيللي وبودان وجروتيوس في القرن السادس عشر الميلادي، وعند فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر منتسكيو وفولتير، و دي توكفيل وهيجل وماركس في القرن التاسع عشر وحتى كارل فيتفوغل الذي طور ما عرف بنظريةالاستبداد الشرقي في منتصف القرن العشرين.
ثالثا الديكتاتورية
يقول مؤلف كتاب (الطاغية) : –
( أن مصطلح (الديكتاتور Dictator) روماني الأصل، آذ ظهر لأول مرة في عصر الجمهورية، كمنصب لحاكم يرشحه أحد القنصلين بتزكية من مجلس الشيوخ، ويتمتع الديكتاتور الروماني بسلطات استثنائية، وتخضع له الدولة والجيش في أوقات الأزمات المدنية أو العسكرية، ولفترة محدودة لا تزيد عادة على ستة أشهر أو سنة على أكثر تقدير، ولقد كان ذلك إجراءاً دستورياً، وإن كان يؤدي إلى وقف العمل بالدستور مؤقتاً في فترات الطواريء البالغة الخطورة) وينبه إلى نقطتين في هذا السياق / أولاهما / أن منصب الديكتاتور بمفهومه الروماني يختلف كلياً عن مفهوم الديكتاتور في العصر الحديث و / الثانية / أن طبيعة نظام المدينة في روما كانت تقتضي تخاذ هذا التدبير الاستثنائي، لأن طبيعة ذلك النظام وتوزع السلطة بين قنصلين متساويين ومجموعة من الموظفين ومجلس للشيوخ وثلاثة أنواع من المجالس العامة، لم يكن يساعد على مواجهة الطوارئ المفاجئة كالغزوات والكوارث الطبيعية والمؤامرات.
أما في الاصطلاح الحديث فإن الديكتاتورية تعني، النظام الذي يتولى فيه شخص واحد جميع السلطات (وغالباً بطريقة غير مشروعة) ويملي أوامره وقراراته السياسية، ولا يكون أمام المواطنين غير الخضوع والطاعة، ويمكن أن يمارس فرد واحد الديكتاتورية كذلك لجماعة، كديكتاتورية البروليتاريا عند ماركس.
رابعاً الشمولية
الشمولية أو مذهب السلطة الجامعة، شكل للحكم يقوم على إذابة جميع الأفراد والمؤسسات والجماعات في الكل الاجتماعي (المجتمع أو الشعب أو الأمة أو الدولة…) عن طريق العنف والارهاب ويمثل هذا الكل حاكم فرد يجمع في يده كل السلطات، والانظمة الشمولية مصطلح استخدم في القرن العشرين، ومن أمثلته إيطاليا في عهد موسيليني وألمانيا في عهد هتلر واسبانيا في عهد فرانكو والبرتغال في عهد سالازار، ومما عبر به موسيليني عن هذا النظام قوله : – (الكل في الدولة، ولا قيمة لشيء إنساني أو روحي خارج الدولة، فالفاشية شمولية والدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها، وهي الت تؤَوِل هذه القيم وتفسرها، إنها تعيد صياغة حياة الشعب )، وعلى ذلك فالدولة الشمولية كتلة واحدة لا تقبل بمبدإ فصل السلطات بأي شكل من اشكال الديموقراطية، وكل معارضة لهذا الكل تُحَطَّم بالقوة، فلا رأي ولا تنظيم ولا تكتل خارج سلطة الدولة، ويمكن تلخيص خصائص الشمولية في.
1 – ضرب من ضروب الحكم التسلطية يتميز عن شتى أنظمة الاستبداد والتسلط، وهي تتمسك بمظهر الديموقراطية لتسويغ تسلطها واعطاء نظامها طابع الشرعية.
2 – تترجم الديموقراطية في المذهب الشمولي في أن ارادة الحاكم هي ارادة المحكومين.
3 – القائد يعبر عن إرادة الشعب، وهنا التلاعب بمشاعر الناس وتتم السيطرة عليهم باسم الشعب وباسم الديموقراطية.
4 – الدعاية الموجهة عن طريق وسائط الاتصال والاعلام لتجهيل الناس والتلاعب بمشاعرهم وآراءهم ومواقفهم وتجييرها لحساب النظم الشمولية.
خامساً السلطة المطلقة
مصطلح يعني الحكومة المطلقة، نظرياً وعملياً، ويشير المؤلف إلى أنه ينبغي التفريق بين الحكومة المطلقة والسلطة المطلقة، فالسلطة متضمنة في الدولة باستمرار، وقد تحدها سلطات أخرى، والحكومة يمكن أن تكون مطلقة حتى دون استيلائها على السلطة المطلقة، وهي تكون كذلك عندما لا تكون هناك كوابح دستورية، فلا يخضع أي من تصرفاتها للنقد أو المعارضة، ويبين كذلك أنه لم يعد للسلطة المطلقة معنىً محدد، فهو مصطلح فضفاض ليدل على حكومات تمارس السلطة بلا مؤسسات نيابية أو كوابح دستورية، وكعضو في عائلة الطغيان المشؤومة التحق بالأسرة في القرن التاسع عشر مع البونابرتية والقيصرية، وفي القرن العشرين بواسطة المذهب الشمولي، وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في فرنسا عام 1796، وفي انجلترا وألمانيا عام 1830، وشأن مصطلح (الاستبداد المستنير) أعاد المؤرخون صياغة مصطلح (السلطة المطلقة) بعد اختفاء الظاهرة التي كان يشير إليها، وقد كان يستخدم في القرن التاسع عشر، غابا، على سبيل الازدراء.
ويواصل المؤلف مناقشة السلطة المطلقة من خلال عرض ومناقشة بعض الفلاسفة والمفكرين الذين تناولوا هذا المفهوم في مؤلفاتهم مثل جان بودان و بوسيه وهوبز وفيلمر.
سادساً الأوتوقراطية
وهي تعني الحاكم الفرد الذي يجمع السلطة في يده ويمارسها على نحو تعسفي، وقد يكون هناك دستور وقوانين، تبدوا في الظاهر كحدود لسلطة الحاكم أو مرشدة له في ممارستها، غير أن الحاكم الأوتوقراطي يقدر أن يعطل تلك القوانين أو يحطمها بإرادته، ويرى معظم المنظرين أن الحكم الاوتوقراطي يقوم على تركز السلطة في يد شخص واحد، لا في جماعة، وعلى ذلك يمك أن تعد كل اشكال الحكم الفردي كالطغيان والاستبداد تعد أنظمة أوتوقراطية.
سابعاً المستبد المستنير أو العادل
وقد ظهر هذا المصطلح في القرن الماضي في الفكر السياسي الأوروبي، ويفترض أنه عند مصطلح الاستبداد المستنير بشكل عام تلتقي مفاهيم الملكية المطلقة التي كانت سائدة في أوروبا، ومفاهيم عصر التنوير التي تجملها كلمات (الفرد، العقل، الطبيعة، التقدم، السعادة) ومن هذا التحالف بين الفلسفة والسلطة المطلقة تخرج سعادة الشعوب، ومن أوروبا انتقلت عدوى المستبد العادل حيث نجدها عند جمال الدين الأفغاني، وبسبب ما ينطوي عليه مصطلح (الاستبداد المستنير) من التناقض، فقد كان موضوعاً لسجالات عديدة بين مختلف المفكرين، يتناول المؤلف بعضاً بالعرض والتحليل، لينتهي إلى تناول مشكلة مدى جواز اغتيال الطاغية من عدمه، إذ يقول (… لمّا كان الطغاة وحوشاً آدمية، كما وصفهم البعض بحق، يدمرون الانسان ولا يتركون أثراً صالحاً، فقد ظهرت مشكلة منذ العهود القديمة وهي (جواز اغتيالهم) وظهر مصطلح خاص بذلك هو (اغتيال الطاغية Tyrannicide) نادت به بعض النظريات السياسية الاغريقية والرومانية، كرد فعل على سوء استعمال الطغاة لسلطتهم.
ولأن موضوع هذا الفصل هو (عائلة الطغيان) فلعل عودة منا إلى قاطع الطريق وسريره تقنعنا بأن ثمة هاجس يستوطن حنايا كل طاغية يصرخ فيه بحقيقة أنه لا بد من أن يتمدد على ذلك السرير المشؤوم ليملأه بجثته القذرة، ولجبنه عن مواجهة ذلك الصوت يهرب منه إلى صراخ ضحاياه وهتافات اتباعه المغفلين.