مختارات

من “الكواكبي” عبدالرحمن… إلى “شلقم” عبدالرحمن

دراسة في طبائع الطُّغْيَان

د. مصطفى دبارة – أستاذ جامعي

.

جَادَ قَلَمُ العَالِم والمُفَكِّر الجليل عبدالرحمن الكواكبي، في مَطْلَعِ القَرْنِ المُنْصَرِم، بأَسْفَارٍ عديدةٍ، لَكِنَّ سِفْرَهُ الأَشْهَرَ والأَهَمَّ هو كتابه الذائع الصِّيت “طَبَاِئعُ الاستبداد”؛ حتى أنَّه بات يُعَرَّفُ به، فيُقال “الكواكبي صاحب طبائع الاستبداد”. وفي هذا الكتاب يُحَلِّلُ الكواكبي شخصية الطَّاغية المُسْتَبِد، فَيَصِفُه بأنه المُتَحَكِّمُ في شُؤون الناس، بإرادته لا بإراداتهم، يَحْكُمُهُم بهواه لا بشريعتهم، ويَضَعُ كَعْبَ رِجْله على أفواه الملايين، فَيَسُدُّها عن النُّطق بالحَقِّ، ويَمْنَعُهَا من المُطالبة به، يرى في كُلِّ فَرْدٍ من أفراد رَعِيَّتِه البقرة الحلوب، والكَلْبَ الذي يُحَرِّكُ ذيْلَه، تَمَلُّقاً وتذَلُّلاً، ويُوجِبُ على الرعيَّة أن تُدْرِكَ هذه النَّزْعَةَ الغَلاَّبة لَدَيْه، فتعرف مَقَامَهَا عنده، وتَقْنَعُ بِأَنَّها خُلِقَت لخِدْمته، وجُبِلَتْ على التسبيح بِحَمْدِه. ثُمَّ ينتهي الكواكبي إلى أنَّ الرعيَّة العَاقِلَةَ ينبغي عليها الوُقُوفُ في وَجْهِ حاكمها المُستبد، والمُجَاهرةُ بِرَفْضِ ظُلْمِهِ، وعليها أن تُتْبِعَ الأقوال بالأفعال، لِتُظْهِرَ للطاغية قُوَّتَها؛ فإنَّ الظالم إذا رأى المظلوم قويّاً، لم يَجْرُؤْ على الاستمرار في ظُلْمِه.

وها هو اليوم عبدالرحمن الثاني، يَخْرُجُ على الناس بكتاب “أشخاص حول القذافي”، إنه الأديب والشاعر والصحفي والدبلوماسي والسياسي المُخَضْرَم، عبدالرحمن شلقم، الذي عاصر وشاهد عن قُرْب حِقْبَةَ الاستبداد في عهد القذافي الطاغية، فجاء كتابه عن تسعة وثلاثين شخصاً من المُحِيطين بالقذافي، غَاصَ عَبْرَ صفحاته، التي تجاوزت الخمسمائة، في شخصيَّة كُلٍّ منهم، بأسلوب تحليلي، صَاغَه صِياغَةً أدبية رفيعة . وجاءت آراء شلقم في هذا الكتاب ذات بُرُوقٍ ورُعُودٍ، فاستقبلها الناس استقبالاً عَاصِفاً، منهم من خَلَبَتْ لُبَّه، فاهْتَزَّ لها وطرب، ومنهم من تَجَهَّمَ لها، فخَاصَمَهَا أشَدَّ خِصَام، ونَقَدَهَا أَعْنَفَ نَقْدٍ. وأَيّاً كان الرأي في هذا الكتاب، وسواء حَالَفَهُ التوفيق أو خَالفَه، فَحَسْبُه ما لَقِيَه من الإقبال المنقطع النظير، ولأَِوَّلِ مَرَّةٍ في بلادنا يَصْطَفُّ الناس في طوابير أمام المكتبات، للحصول على نُسْخَةٍ من كتاب، كاصطفافهم أمام المخابز لشراء خُبْزِهِم اليومي.

وإذا كُنت أُقَارِنُ بين “طبائع الاستبداد” “لعبدالرحمن الكواكبي” و”أشخاص حول القذافي” لعبدالرحمن شلقم؛ فَوَجْهُ المُقَارَنَة الرئيس هو أَنَّ كليْهما جاءا تحليلاً لـ”شخصية” الطاغية المُستبد، وتَمْحِيصاً للظروف التي تُسْهِمُ في تكوينها، دون أن يَضْرِبَا صَفْحاً عن “أشخاص” المُحيطين بالطاغية، من الحاشية والبِطانة والزبانية، وكيف يُمْكِنُه تصنيعهم وتجنيدهم، وتسخيرهم لتحقيق مطامحه، وحماية عرشه، وتوطيد أركان حُكمه، وتبرير استبداده وطُغيانه ؛ فيصيرون الأيْدِي التي يبطش بها، والبوقات التي تُسَبِّحُ بِحَمْدِه، وتَتَغَنَّى بِمَجْدِه، فيصدق عليهم قول المُتنبِّي: (… وفي الناس بوقات لها وطُبُولُ!).

وإذا كان الاهتمام مُنصَبّاً على قِيَمِ الرِّفْعَةِ والسُّمُوِّ والنُّبْلِ والشرف والفضيلة، ويَحْظَى أصحابُها بالتَّوْقِير والاحترام والمَهَابَة والتقدير، ويُنْزَلُونَ المَنْزِلَةَ العالية الرفيعة، وتُدَبَّجُ فيهم السِّيَرُ والملاحم، وتَجُودُ فيهم القرائح بقصائد المديح والمُعلَّقَات، وتُعْقَدُ لتكريمهم المحافل والمُؤتمرات، فإن في مُقابل هؤلاء طُغاةً مُسْتَبِدِّين، وأشخاصاً في الأرض فاسدين ومُفْسدين، لا ينبغي أن تكون شخصياتهم بِمَنْأَى عن الدراسة والتمحيص والتحليل. ولنا في القرآن الكريم القُدْوَةُ الحَسَنَةُ، والمَثَلُ المُبين “وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى”؛ فقد أفاض القرآن في ذِكْرِ قصَصِ الأنبياء والرُّسُل، ودُعاة الحَقِّ والخير والفضيلة، أَمْثَالُ لُقْمان الحكيم، وامرأة فرعون، والرجل الذي جاء من أَقْصَى المدينة يسعى، وفِتْيَة الكَهْفِ الذين اعتزلوا الشِّرْكَ، فزادهُم ربُّهُم هُدى، ولكنَّه – مع ذلك – لم يَضْرِب صَفْحاً عن ذكر إبليس وفرعون وهامان، وامرأة نوح وامرأة لوط، وأبي لهب وامرأته حمّالة الحطب، وأصحاب الإفك، وغيرهم من الطغاة والجبابرة والمُفسدين في الأرض.

ولئن كُنَّا نَكْرَهُ الشرَّ ونَتَجَنَّبُه، وننفرُ من ذكر الطاغية الشرير، ومَنْ يَرْكَبُ مَرْكَبَه، ويَذْهَبُ مَذْهَبَه، فإن ذلك لا يعني أن نَسْتَنْكِفَ عن دراسة مكامن شخصيته، وتَتَبُّع مراحل سيرته، وكَشْف مظاهر عنجهيته، ولا أن نَخْشَى من أنَّ في ذلك تعظيماً لشأنه، قد يجعله نموذجاً للبطولة!؛ فدراسة الشرِّ تزيدُ النفورَ منه نفوراً، وقد صدق الصوفيون بقولهم إن “من ذاق عرف”؛ كمن ذاق طعم الحنظل، وعرف مرارته، فلا يعُود أبداً إلى مُلامسته، وكالطفل تَلْسَعُ النار إصبعه، فيحسُّ بألم حَرْقِها، فلا يَجْرُؤ بعد ذلك على الاقتراب منها، وآية ذلك أنَّ كُلِّيات الحقوق، في جامعات الأرض، تُدَرِّس طُلابها “عِلْمَ الإجرام” لِتُحيطَهم علماً بالعوامل المُؤَدِّية إليه، والظروف التي تسوق المجرمين إلى السقوط في وهاده، وتُعِدُّهُم إعدادهم ليكونوا قادرين على وضع السياسات الكفيلة بالوقاية من الإجرام ومُكافحته، والنظم القمينة برَدْعِ المجرمين وعلاجهم وإصلاحهم، لِيَأْمَنَ المُجتمع شَرَّهم.

ومن هنا تأتي مقالتنا عن كتابَيْ “طبائع الاستبداد” للكواكبي، و”أشخاص حَوْلَ القذافي” لشَلْقَم ؛ فكُلٌّ منهما يَسْبِرُ غَوْرَ شخصية الطاغية، ويُمِيطُ اللِّثام عن الظروف التي يُمكن أن تُحيطَ بالإنسان، فَتُحَوِّله إلى وَحْشٍ، يبطش ويطغى ويستبد، وهما يدرسان حياة الطاغية، ويضعان يَدَيْهما على مفتاح شخصيته : كيف تكون طفولته غير السوية؟ وكيف يقضيها في بيئة جافَّةٍ قاسية؟ ألم تَرَ كيف يُقَارِنُ “شلقم” بين رواسب الطفولة التعيسة، التي ظَلَّت كامنة ً في نفوس الطغاة الجبابرة، أمثال نيرون وهتلر وموسوليني وصَدَّام والقذافي؟ وكيف خَلْقَت هذه الرواسب لَدَيْهم إحساساً بالدُّونية والوَضَاعَة، وَلَّدَ في شخصية كُلٍّ منهم رَغْبَةً جَامِحَةً في الانتقام من كُلِّ ما هو شريف ونبيل، ونَزْعَةً إلى هَدْمِ ذوي الهامات العالية، حتى يذوقوا ما ذاقوه، هم أو آباؤهم أو أمهاتهم، من مَهَانَةٍ ووَضَاعَةٍ؟!.

والقاسم المُشْتَرَك بين “الكواكبي” و”شَلْقم” دَرْسُهما حياة الطغاة، على مُخْتَلَف درجاتهم ومُستوياتهم، سواء كانوا على قِمَّة هَرَم السلطة، حُكَّاماً يَتَحكَّمون في رقاب العباد، ويُسَيْطرون على مُقَدَّرات البلاد، أو كانوا حاشيةً وجَلاَّدين وزبانية، يَدَ الحاكم التي يبطش بها، وسيفه الذي يضرب به رؤوس مُعارضيه. وهؤلاء أيضاً تَعنُّ الحاجة لدراسة شخصياتهم، وكشف الظروف التي تجعل منهم وحوشاً كاسرة، وتُمِيتُ ضمائرهم، فلاَ يَتَوَرَّعُون عن تمزيق الأجساد بالسياط والكرابيج، ولا يَرْعَوُون عن إزهاق الأرواح، وسفك الدماء، وهتك الأعراض، ومع ذلك يعودون إلى بيوتهم، بعد يوم حافل بالفساد والإجرام، ولا يُفَكِّرون إلاَّ فيما ينتظرهم في اليوم التالي من المهام التي يُكَلِّفُهم بها زعيمهم الذي عَلَّمهم العَسْفَ والجُور والاستبداد والطغيان!. إنَّ دراسةً من هذا النوع تَضَعُ أيدي القُرَّاء على بذرة الطغيان، وتُريهم كيف تُبْذَرُ فتَنْفَلِقُ فَتَنْبُت، وسَرْعَانَ ما تنمو وتَتَفَرَّع، لتَتَحَوَّل إلى وَحْشٍ اخطبوطي، يَتَحَلَّلُ من القوانين والشرائع والأخلاق والأعراف، ويَضَع لنفسه قانوناً خاصاً، يجعل الظلم عدلاً، والعدوان حقاً، والعُهْر شرفاً وفضيلة. ألم تروا أن الطاغية – في بلادنا أو غيرها – يستبيحُ لنفسه إبادة الخصوم، حتى بعد أن يُلْقوا أسلحتهم، ويصبحوا أسرى بين يَدَيْه؟!. إن كُلاًّ من الكواكبي في “طبائع الاستبداد” وشلقم في “أشخاص حَوْلَ القذافي” يكشفان عن نظرة الطاغية إلى خصومه، حين يَسْتَفْرِدَ بهم ويَسْتَقْوِي عليهم، مُستبيحاً دماءهم وأعراضهم وأموالهم . والكتابان يُنَبِّهان الناس إلى أن تلك هي نظرة الحاكم المُسْتَبِدّ إلى أفراد شعبه، وهي تنشأ وتزداد رسوخاً عندما يُسَيْطر عليهم الخَوْف والذل والضعف والتخاذل، ويسود بينهم النفاق والتَّمَلُّق، فَيَتَصَوَّرُ الطاغية نَفْسَهُ المعصوم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يَدَيْهِ ولا من خلفه، لا رَادَّ لمشيئته، ولا مُعَقِّبَ على حُكْمِهِ، تَسْمُو إرادته على كُلِّ الإرادات، وتَتَقَدَّسُ كلمته على كُلِّ الكلمات، وتَجُبُّ عبقريته عقول الناس كافَّةً.

وإذا كانت العقود الأربعة قد عَلَّمتنا دروساً، فأهمُّها على الإطلاق ألاَّ نَصْنَعَ طُغاتنا بأَيْدينا، كمن يستأنس حيواناً مُفْتَرِساً، فينتهي إلى فريسة بين أنيابه ومخالبه، ولْنَعْتَبِر بِسِيَرِ الطُّغَاة ؛ ولْنَكُنْ شعباً واعياً، نَقِفُ في وَجْه الظالم المُستبد، ونَرْفُضُ ظُلْمَهُ، مُتَمَسِّكين بقُوَّةِ الحَقِّ، قُوَّة القانون، فإنَّ الظالم إذا رأى المظلوم قويّاً، لم يَجْرُؤْ على الاستمرار في ظلمه !، ومُتَذَكِّرِين قَوْلَ عباس محمود العقّاد:

أَنْصَفْتَ مَظْلُوماً فَأَنْصِفْ ظَالِمــــاً فِي ذِلَّةِ الْمَظْلُومِ عُذْرُ الظَّالِمِ

مَنْ يَرْضَى عُدْوَانـــاً عَلَيْهِ يُضِيرُهُ شَرٌّ مِنَ الْعَادِي عَلَيْهِ الْغَانِمِ

ولا ننسى قول خليل مطران:

مَا كَانَ كِسْرَى إِذْ طَغَى فيِ قوْمِهِ إِلاَّ لِمَـا خَلَقُوا بِـهِ فَـعَّـــــــالاً

هُـمْ حَـكَّمُوهُ فَاسْتَبَدَّ تَحَكُّـمـــــــــاً وَهُمُ أَرَادُوا أَنْ يَصُولَ فَصَالَ

إِنَّ خَفْضَ الأكْثَرِينَ جَـنَـــــــاحَهُمْ رَفَـعَ المُلُوكَ وَأَنْذَلَ الأَبْطَـالَ

عن ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الإعلام في ليبيا إلى أين؟

المشرف العام

سخافة الصحافة

المشرف العام

الباشا بميدان البلدية

المشرف العام

اترك تعليق