جلست أنتظر دوري لمقابلة البائع في الدكان المنزوي، يتكرر الشريط في رأسي، يتسلسل ويتعاقب في ذاكرتي دون توقف.
تقول لأخي: “لا بأس يا دكتور “.
وتقول لي: “قبحك الله “
في كل مرة يتصرف فيها أحدنا تصرفاً أرعناً وغير مهذب.
وجدتها تحتسي الشاي يوم نجاح أخي بتفوق في الشهادة الثانوية، تتزين بمصوغاتها الذهبية، طوق ورثته عن والدتها وقرطين أهداهما لها أبي في إحدى المناسبات الخاصة، تقول دائماً إنها تعني لها الكثير و لا تتزين بها إلا عندما تكون سعيدة ورائقة، انتهزت الفرصة وعاتبتها، ندمت، جاهل مثلي لا يمكنه أن يقدر حجم معاناة الأمهات بعد رحيل الآباء.
قالت وعينيها تكسوهما طبقة سميكة من الدموع :
– اتحسب الأمر هيناً؟، أقسو عليك لتصبح رجلاً.
محاضرة طويلة أسمعتني إياها يوم تنسيب أخي لكلية الطب: “تمنيت أن أفرح بك لكنك مصراً على الفشل”..
أخطائي كثيرة، ومحاولاتي لأكون صالحاً لا تتوقف، نجحت في عملي في ورشة الحدادة، مكسبها ليس وفيراً لكنه يكفيني ويسد حاجتي وبعضاً من حاجاتها، لم يرضها حالي أو يقنعها، و لم يبرح قلبي اليقين بأنها على حق،، لو أتبعت نصائحها لكنت بحال أفضل.
عندما عادت ذات مرة من السفر، قدمت لي هدايا عديدة، وقدمت لأخي الأفخم والأجمل، ربما أنا أبالغ، لا أدري، سمعتها تقول له:
– حرصت أن اشتري لك أشياء مميزة وماركات شهيرة، أعرف وضعك جيداً.
فكرت ملياً في كلامها، هي على حق، أخي يدرس في كلية مرموقة وعلينا ألا نجعل مظهره أقل من غيره. تفاصيل مشاجرتي مع أخي لا تفارقني، ارتديت إحدى ستراته الفخمة دون أذنه، هدد وتوعد ووصلنا إلى الضرب، نهرتني أمي وهي ترتجف:
– لِمَ ارتديت سترته؟ كيف يلبسها وقد أصبحت رائحتك الممزوجة بالحديد والشحوم عالقة بها.
أمي تحاول أن تكون حازمة، تقول كلمة الحق دون أن تهادن أو تجامل، الأمر ليس هيناً كما تقول، شعرت بأنني لست بخير، ألم قاتل يعتصرني!! وكأن سهماً انغرز في صدري. رمقتها صباح اليوم التالي وهي تخرج من غرفتها حزينة، مشعثة الشعر على غير عادتها، تردد في جزع :
– ضاعت اقراطي، بحثت عنها في كل مكان ولم أجدها.
رققت لحالها، واسيتها، اعتراني حزن جارف، تمنيت أن تبتلعني الأرض واصبح نسياً منسياً.
مدحت أمامها مراراً وتكراراً أدب وأخلاق ابنة جيراننا، قلت لها على استحياء عندما تصادف أن التقيناها قريباً من بيتنا “آه، جميلة جداً”، شعرت بابتسامة أمي تتسع وكأني أوحيت لها بفكرة ما، ابتسمت أنا أيضاً، خمّنت إنها لاشك فهمت مرادي وما يعتلج في قلبي، عندما عدت من عملي بعد أيام وجدت أخي يرتدي بدلة فاخرة وكأنه عريس، ناولتني أمي صحن به قالب من الحلو، أُصبت بغصة عندما أبلغتني الخبر:
– ليست خطبة رسمية، مجرد اتفاق مبدئي.
عقبت في همس:
– أهل الفتاة من علية القوم ولن يرضوا سوى بشخص يناسب مستواهم يا بني.
آه، عاودني ألم صدري، كاد أن يقتلني تلك الليلة.
أفقت من شرودي على صوت البائع وهو يسألني “ما حاجتي”، مددت له طوقها كي يزنه ويعرف ثمنه، الأمر أصبح هيناً هذه المرة، لم أشعر بالندم والأسى اللذين شعرت بهما عندما بعته أقراطها.
2 تعليقات
قصة رائعة
علها تعالج أمراً اجتماعيا أُسرياً وهو خلق التفاضل بين الإخوة الذي ينتهي آخرا للشقاق بين الأشقاء
ولهذا ينبغي على الوالدين عدم التفريق بين الإخوة مع حفظ مكانة كل واحد منهم دون انتقاص من الآخر
وكذلك يعمم هذا التفاضل بين الطلبة وزملاء العمل وكل دائرة تجمع فريق كل منهم بحسب تخصصه.
دمتم أختنا المُكرَّمة ودام اليراع يخط الكثير من الإبداع
نشكر مرورك الكريم