من أعمال التشكيلية تقوى أبوبرنوسة.
المقالة

قصيدَةُ النَّثرِ: عوالمُ السِّحرِ المغفولُ عنها ..

من أعمال التشكيلية تقوى أبوبرنوسة.
من أعمال التشكيلية تقوى أبوبرنوسة.

لا شيءَ يَقْبِضُ على اليَوميِّ بكلِّ تفاصيلِهِ كما تفعلُ قصيدَةُ النَّثرِ، فهي تفخِّخُ أعيُنَهَا المتلصِّصَةَ على كلِّ الأشيَاءِ لأسرِ تفاصيلِهَا الهارباتِ .. لقنصِ المعاني السَّائبَةِ .. وتوثيقِ المغفولِ عنهُ .. المتغافَلِ عن أَهمَّيتِهِ .. لكنَّها مُرَاوِغَةٌ .. هذهِ الفرسُ الجموحُ المربِكَةُ غيرُ المرتبِكَةُ .. الواهِمَةُ الواهِمِينَ بَبَسِاطتِها .. المغرِقَةُ السَّذَّجَ في عمقِ شساعِتها .. الطَّافِحَةُ بِعُشِّاقِهَا الحقيقيِّينَ على سطحِ إبهارِها .. الواشِيَةُ بهؤلاءِ وهؤلاءِ .. الطَّالِعَةُ من رَحِمِ الصُّعوبَةِ بركانًا وحقلَ جحيمِ .. وجزرَ أسرارٍ .. الشَّاهِرَةُ سيفَ تحدِّيها في وَجْهِ الزَّمنِ والأمسِ .. المناوئةِ للمُكَرورِ والمُعَادِ والمَمْضُوغِ .. لم تزلْ ترفلُ في فساتينِ عذريِّتِهَا .. مُجَاهِرَةً بحداثَةٍ لم يفضَّ بَكَّارَتها خَيَالٌ .. صَادِحَةً باختِلافِها .. بتحدِّيها .. معتزَّةً بأنوثَتِهَا .. بعطرِها وغنجِهَا .. وَوَهْجِهَا.. بِوَجْهِهَا الذي تلتقِي على قَسَمَاتِهِ تَفَاصِيلُ قُزَحِيَّةٌ فاتنةٌ .. وتنطلقُ منه ملايينُ الحمَائِمِ والفراشَاتِ والنَّحْلاتِ مُعْلِنَةً اندلاعَ ربيعِ الشِّعْرِ .. مُبشِّرَةً بِنُبُوءَةِ القصيدَةِ .. ومن خِصْرِهَا المُتَثَنِّي تَفِرُّ ملايينُ اليمَامَاتِ .. وَتَعْزِفُ موسيقا الحياةِ لحنَهَا الخالدَ العَصِيَّ.
قصيدَةُ النَّثْرِ لا تُسَمِّي الأشياءَ بأسمائِها المستهلَكَةِ الكَسِيحَةِ؛ لذا فهي تقترحُ للشَّيءِ الواحدِ ألفَ مُسَمًّى أو يزيدُ .. ذلك مُبْهِرٌ حَقًّا .. إنها تمنحُ الخيالَ فرصَةَ الانفِلاتِ من عِقَالِ المعقولِ الضَّيِّقِ إلى فَسَاحَةِ المطلقِ الفاتنِ .. وتُتيحُ فخامَةَ التَّسرُّبِ المثيرِ من عَقَالَةِ الوَاقِعِ الرَّصِينِ إلى جُنُونِ التَّخَيُّلِ والحلمِ وَالدَّهْشَةِ .. إِنَّهَا تُعِيدُ إِلَينَا أَشْيَاءَ نعرفُهَا بطريقةٍ لم نكنْ نعرِفُهَا.. لنعرِفَهَا .. نتعرَّفُ عليها بسيمَاءَ جديدَةٍ .. ووجوهٍ جديدةٍ .. ودهشَةٍ جديدَةٍ .. ذلكَ مدهشٌ حقًّا ومثيرٌ حدَّ الفتنةِ .. 
لكن في المقابلِ هي ليست فرسًا مطواعًا يمكنُ لكلِّ متشاعرٍ أن يمتطيَها، ولكلِّ مستسهلٍ أن يستبيحَ ظهرَها، ويلجَ فضاءاتها .. ستوهِمُهُ أنها سهلةٌ كما اعتقَدَهَا .. حتَّى تسقطَهُ.. حتَّى تُعَرِّيَهُ .. فاحذروا ..
إنها لا تلينُ لغيرِ فارسِ شعرٍ حقيقيٍّ يمكنُهُ أن يقودَهَا ليرودَ بها الآفاقَ العَصِيَّةَ.. ويقتنصَ بها المجازاتِ الآسِرَةَ، إِنَّها كجوادِ المتنبيِّ:
على قَلِقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحْتِي …. أُوجِّهُهَا يمينًا أَوْ شِمَالَا
قصيدَةُ النَّثْرِ مِثَالٌ للتَّمَرُّدِ لا يَخُونُ .. ووعدٌ أخضرُ مَعَ الانطلاقِ لا يَخِيبُ ..
وَبَحْرٌ هَادِرٌ لا يَعْبَأُ بِالْعَوَائِقِ .. إِنَّهَا وُلِدَتْ لِتَكُونَ .. لم تَسْأَلْ نَفْسَهَا من تَكُون.
وَالشِّعْرُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، ولا يَخُونُ عهدَهُ ..
شكرًا أَيَّتهَا القصيدَةُ العَاصَفَةُ والرَّعْدُ وَالْمَطَرُ وَالرَّبيعُ وَالشَّتَاءِ .. أَيَّتُهَا الأُنْثَى الجَمُوحُ، أَيَّتهَا الْجُمُوحُ وَالْجُنُوحُ وَالإِمْتَاعُ ..
______________________________
# نشرت بمجلة الفصول الأربعة، الصادرة عن رابطة الأدباء والكتاب الليبين، العدد 122 – يوليو صيف 2019.

مقالات ذات علاقة

الشاعر الذي تنحني لكلماته الجباه

مفتاح قناو

تُونس من جِلدِ ثورٍ ليبي، وجدارها من رمل!

أحمد الفيتوري

أسئلة مشروعة

عادل بشير الصاري

اترك تعليق