محمّد نجيب عبد الكافي
… وكلاء الوزارات (5)
هذه الحلقة هس خاتمة حديثي عن وكلاء الوزراء الذين تشرفت بالتعاون والعمل معهم. عرفت أكثر مما ذكرت، وكان معظمهم، كي لا أقول كلهم، يتمتعون على أقل تقدير بالإخلاص لليبيا والصدق في العمل من أجلها.
– إبراهيم الهنقاري

عرفت آل الهنقاري أيام تدريسي بثانوية الزاوية، أي بعد دخولي ليبيا بأقل من شهرين. اثنان من أبناء العائلة كانا من طلاب المدرسة. كبيرهما مصطفى، تتلمذ عليّ فرأيت فيه الذكاء والفطنة وحب المعرفة. فاق رفاقه في تعلّم اللغة الفرنسية تفوّقا ملحوظا جعلني أمدّه بما يطالعه خارج الدّروس، متيقنا أنّه غير مكتف بما يتلقاه في الفصل فينهل وحده من ينبوع آخر. كان أيضا ينظم الشعر الجيد رغم صغر سنّه وأولى خطاه فيه. فلم يكن لديّ ما أضيفه له سوى التشجيع بالكلمة الحسنة وجميل العبارة متكهّنا له مستقبلا زاهرا، فصدقت تكهناتي لأنه تسلق أعلى رتب العلم بنجاح فنال منه نيلا عتيّا. الغريب في الأمر هو أني لم أتعرّف على الأستاذ إبراهيم عن طريق عائلته وأخويه، ولا عن طريق منصبه كوكيل وزارة النفط، بل التقينا في مجالات أطيب أريجا من رائحة النفط وأبعد عن ناره. تعارفنا بين أحضان الأدب والفن، في دروب وأبهاء دار الإذاعة، حيث كان من كبار مسؤوليها. عرفته، كغيري، منشرح الصدر، ودودا ملاطفا، ميالا للكتابة والتحرير، فتطابقت ميولاتنا فمتنت صلاتنا المستمرّة حتى يوم الناس هذا. أنتجنا معا بعض البرامج الثقافية بثتها في حينها الإذاعة على أمواج أثيرها. أكتفي بهذه الكلمات المختصرة آملا أنها كافية لإعطاء صورة، ولو غير مكتملة عن رجل نشط وطني، خشية الامتثال للعاطفة وما تدفع إليه الصداقة من تجميل وتحسين، وهو ما أحاول دوما تحاشيه. فالأستاذ إبراهيم من خيرة من عرفت وصادقت.
– علي عتيقة

رجل عصامي بالمعنى الدقيق للكلمة. كوّن نفسه من قليل، كي لا أقول من عدم، فتسلق بجدارة واستحسان درجات المعرفة حتى بلغ أعلاها، فنال من الشهادات أرفعها. ناشط في العمل، محبّ ومقدّر لكلّ إنجاز. عرفته كرئيس وهو وكيل وزارة التخطيط والتنمية، التي أعدّت ونفذت مشاريع ذات بال وحاجة لليبيا التي خطت، في طريق التطوّر والنمو، خطوات نالت التعجب والاستحسان. منها ما كان تتمة لما بدأه سلفه، كمشروع المسح الكامل لقطاع المواصلات الذي بدأه عبد الله سكتة، ومنها ما هو من تخطيط وإعداد الطاقم العامل بجانبه ومنه عيسى القبلاوي وأبو بكرالشريف اللذان تولى كلّ منهما وزارة بعد ذلك، والمهندس حسن الشعري والشباب الجامعي الذي التحق بالوزارة يومئذ فبث فيها روح الفتوة والطموح، وقد سبق لي ذكر أسماء بعضهم. ثمّ عرفته صديقا وهو أمين عام منتدى الفكر العربي بالأردن، فبدا وجهه الإنساني العربي وحبّه الواقعي العملي لوطنه ليبيا التي تمنّى وعمل في سبيل تقدّمها ونجاحه.
أذكر له لفتة خاصة بي، منحنيها هو الاخر أعتبرها، كلفتة سلفه السيد سكتة، دينا عليّ أفيه بالدعوات والترحم. كنت نائبا لمدير مكتب التعاون الفني، المسؤول عن عقود وشؤون كل الخبراء المستوردين، فبعد دراسة ملفات بعضهم معه وهممت بالخروج من عنده، استوقفني قائلا: أنت تعمل معنا بعقد موظف داخلي، دعنا نغيّره بعقد مستورد فهو أفضل. فاجأني الاقتراح، ويشهد الله أنه مغر، فالمرتب وحده يضرب في عشرة تقريبا، إضافة لمزايا أخرى كتذكرة سفر وعودة كل سنتين وغيرها. بقيت صامتا برهة لعلها طالت، وهو ينظرني وينتظر جوابي، فرفعت رأسي، بعد انحناءة التفكير، وقلت له: اقتراح وعرض كريم يا دكتور! لكن، أأقول لبلاد اعتبرتني ابنها، لا أريد، أفضل أن أكون غريبا ؟ تمتم كلمات لم ألتقط منها شيئا لعله خاطب نفسه، ثمّ صافحني بشدة وخرجت.
هذه نُبَذ عن رجال من ليبيا التي عرفت، حاولت رسم صور منهم أقرب ما تكون من الحقيقة. فإن وُفِقت فذلك من فضل ربّي وإن قصّرت فالعفو من شيم الكرام.
في الذاكرة المزيد فلي عودة إن طال العمر.