2
“أبلة حليمة” اسم للجمال والبهاء، هي الآن في العالم الآخر (دار الحق) كل الرحمات لها والمغفرة. لم أكن أعرف اسمها، وأنا مجرد تلميذة صغيرة تجلس محتضنة حقيبتها تنتظر رنَّة الجرس لتقف في طابور (الصف الثالث) في مدرستها (حليمة السعدية)، ضجيج ساحة المدرسة وحديث متبادل مع “فاطمة” صديقتي وجارتنا في السانية، وربما قربنا “عيادة” بنت عمتي، هدوء أحسسته وصوت رقيق يتكلم وإشارة لبنت، لكن البنت رفضت ولا أدري صوت من التي ارتفع صوتها ليقول: أهيه حوا شاطرة؟
رفعت رأسي لأنظر فقابلتني الجميلة؛ شعر أسود، وعينان تشعان حنانا وابتسامة: تعالي، إلى أين.؟ ودخلت أتبعها إلى فصل مقابل.
كان طابور من البنات يستند على الحائط، وأنا تلك البنت الصغيرة بالصف الثالث، كَمْ كان طولي حينذاك، وأنا التي لم أقفز سور المتر والنصف إلا بخمس سنتيمترات “هههههه”.
بنت صغيرة بضفيرة و(قرنبيول) أكحل و(نستروا) أحمر وطباشير في اليد نظرت وجدت “علياء” من السانية تنظر لي وتبتسم، التفتت للسبورة وأسمع صوتها الرقيق عاليا (لا) فأكتب (ل) تنظر لي وتعاود (لااااا)، وأعيد (ل). انظر إلى وجهها خفت أن تغيب تلك الابتسامة فكتبت (لا) وانسابت الجملة وأظن أنه كان درسا عن (النمل) للصف الخامس ابتدائي، ملأت سطراً من السبورة السوداء، ووقفت أمام الفصل والتصفيق يعلو وخروجي راكضة وجلوسي في ذات المكان. وبنت فارعة الطول ترفع وجهي لتنظر هذي الصغيرة التي لم تخطيء في الإملاء، وفرحة معلمتي “أبلة نوارة”، حين أخبروها عن تلميذتها التي كتبت إملاءً صحيحا لبنات الصف الخامس.
كنت بالصف الثالث، أنا التلميذة التي أعادت الصف الأول الابتدائي والذي كنت به في عام 1968م. كانت معلمتنا “عزيزة”، وكان للصف ثلاث عريفات أخوات من تونس يدرسن معنا، كبيرة وأصغر منها والصغيرة التي كانت أجملهن وأرقهن، كانتا قاسيتين حين تغيب “أبلة عزيزة”، والويل لمن تتحرك من مقعدها نصبح تماثيل صغيرة نرتجف رعباً.
قربي كانت تجلس بنت سمراء اللون جداً (………..) كان الاسم الذي تناديها به المعلمة فتستجيب، مازلت أذكر ذاك اليوم الشتائي والبنات الثلاث، يحرسن الفصل، هل عطست رفيقتي السمراء أو تحركت قليلا فإذ بهما ينقضان عليها ليخرجاها من المقعد لكنها تشبثت به رغم كل محاولاتهما. ونظرا إلي، كنت قد رفعت أصبعي لأحكَّ أنفي، تركا رفيقتي التي أعيتهما وأمراني أن أقف وأخرج من المقعد لأحاذي الواقفات في الطابور الذي ينتظر “ابلة عزيزة” والتي ستجيئ لتنهال على أيادينا الصغيرة المرتجفة من برد الشتاء بعصاها الغليظة، وأعدّت ذاك العام لأني رسبت في “الحساب”.
لكن ذكرى دافئة مازالت في قلبي من ذاك العام، كان الافطار اليومي (بانينة)، مرة بالطن ومرة بالحلوى الشامية ومرة بالمربي، وذات يوم وكان دور (البانينة بالطن)، وحين وصل الدور في “وداد” التي تقف قبلي وكنت بعدها وكنّا من تبقى، (البانينة كملت) وهكذا كان انتظارنا ليأتوا بالخبز العادي من (الكوشة القريبة) أو (دكان عمي عويدان)، وجاءت ساخنة مليئة بالطن، لن أنسى مذاقها ولا طعم ذاك الطن وحتى رائحته.
وهكذا عاودت الصف الأول والذي سأدخله في سبتمبر 1969م بعد (ثورة الفاتح) وبيان “معمر القذافي”، هذا البيان الذي جلست “السانية” كلها في (فم الحياش) لتستمع إليه وتراه في التلفزيون الوحيد الذي يملكه “الصيد” الجميع ينظرون إلى ذلك المربع ونحن الصغار نغتنم الفرصة للركض واللهو دون أن تتبعنا الأوامر والنواهي، يرتفع صوت ونسمع تصفيق وبهجة وفي المدرسة بنت طويلة اسمها “سالمة” تقف لتغني أغاني (بشاير ياليبي بشاير)، و نحن نصفق والمعلمات فرحات، وأدخل صفي وتجيء معلمتي “اعجيلية” هذا اسمها، وأعيننا تتعلق بها بوجهها الوسيم وضفيرتها الطويلة الطويلة، فستانها وحذائها. ما أروع أن تكون معلمتي بالصف الأول جميلة هكذا ويمر العام، ما أذكره هو فصلنا الواسع وشبابيكه التي تشبه سماءً، وآخر العام في آخر كراسة الإملاء تكتب معلمتنا “اعجيلية” اسم كل واحدة في كراستها وتطلب منّا أن نملأ الصفحة، وتنكبّ “حواء” الصغيرة لتنقش اسمها، وتملأ الصفحة كاملة، وحين تعود إلى البيت تفتح حقيبتها وتتباهي أمام إخوتها، ولكن بهجتها الأكبر حين ينظر أبوها إلى تلك الصفحة ويمنحها تلك “الشكلاطة” ذات المربعات الشهية.
هل هذه الذكريات هي من سيرتي الأدبية أقصد هل تكون في هكذا سيرة؟
لست أدري فأنا لم أنمّ منذ يوم أمس الأحد 21 رمضان، هذا الأرق لم يفارقني منذ بداية الحرب على طرابلس، وأشعر بلا جدواي وحتى لا معنى لما أكتب الآن.
من أنا لأكتب سيرتي الأدبية.. هههههههه.. وأي سيرة هذه التي أدّعيها وأي جدوى؟؟؟!
_________________________________
بعد ظهر الاثنين 22 رمضان الساعة الواحدة وسبع وعشرين دقيقة.