حرب الفيسبوك
المقالة

حرب الفيس بوك الليبية العظمى

بوابة الوسط

هناك حرب تدور رحاها إلى جانب الحرب التي تدور على الأرض وهي أشد ضراوة وخطرا على ليبيا من الحرب التي تجرى بالسلاح، إنها حرب الفيس بوك الليبية العظمى التي تجري على كامل الأرض الليبية وعبر قارات العالم وحيثما يوجد ليبيون.

حرب الفيسبوك
حرب الفيسبوك (الصورة: الشبكة)

هذه الحرب تتميز بميزتين، أولهما أنها مصدر لتغذية الحرب الدائرة على الأرض نظرا للخطابات التي تحمل مفردات ومصطلحات وإيحاءات تخاطب كل فئات المجتمع لترغمهم على الاصطفاف حول هذا الطرف أو ذاك، وثانيهما أنها حرب تقودها إركانات ليس لديها ملاك لمقاتليها ولا تدفع مرتبات لمن تحشدهم من المقاتلين الذين ينضمون إلى ميدان المعركة في الفضاء الافتراضي الذي يغذي بدوره الفضاء الواقعي بالكراهية والفتنة والتحريض، لكي يتم إعادة تشكيل الواقع السياسي والجغرافي الليبي، وثالثا فإن حرب الفيس بوك هذه مهما ارتدت من مسوح فإن مغذيات خطاباتها تبدو متمحورة على محورين، أولهما الجهوية والدين وثانيهما الوطنية والجهوية.

المحور الأول يرى في الحرب الدائرة في طرابلس حربا تجري بين مليشيات حفتر القادمة من الشرق البعيد أو أنها قوات مسلحة يتقمصها خليفة حفتر من أجل حكم ليبيا بعد أن يقضي على المختلفين معه بالحديد والنار ليتسنى له تأسيس نظام عسكري يتوارثه أبناؤه من بعده على غرار ما كان القذافي بصدد إنجازه بعد أربعين عاما من التأله والاستعباد، وهو أمر لا يقبل به الليبيون الذين ذاقوا الويلات من حكم الفرد المطلق ودفعوا ثمنا باهظا من الأرواح والدمار وذهبوا إلى حد القبول بأن تمد لهم قوى أجنبية يد المساعدة تحت مظلة المجتمع الدولي، في سبيل التخلص منه وإقامة دولة مدنية ديمقراطية تحترم فيها حقوق الإنسان وحرية التعبير والاعتقاد، دولة يكون فيها رأس الدولة أعلى موظف يطاله قانون المساءلة والمحاسبة والعزل ثم إن العاصمة لا ينبغي أن تكون ميدانا للحرب والجيوش الحقيقية لا تهاجم عواصمها ويكفي ما أصاب بنغازي وأهلها من دمار من أجل القضاء على شباب معظمهم من الثوار المستميتين في الدفاع عنها الرافعين لرايات الحرية في مواجهة العسكر والطواغيت، كذلك لم يكن هناك ما يبرر هذه الحرب التي سيخسر فيها الوطن كيف ما كانت نتائجها، في الوقت الذى كان فيه الملتقى الجامع على الأبواب وخطة الأمم المتحدة تسير وإن تعثرت، نحو اتفاقات ومصالحات وانتخابات إلى جانب التقصيف التدريجي لأجنحة المليشيات المسلحة في العاصمة وبالتالي فإن المبرر الوحيد لهذه الحرب هو خوف خليفة حفتر من أن هذا الحل السياسي لن يحقق له ما يريد.
إذن ملخص عناوين حرب هذا المحور الفيس بوكى، هي لا لوأد الدولة المدنية، لا لطغيان العسكر، لا لتدمير العاصمة بحجة تحريرها من الإرهاب، بينما يرى المحور الثاني في كل هذه الحجج اسما على غير مسمى ودعوة حق يراد بها باطل، ففي الواقع ليس هناك بعد توقف الحرب مع نظام القذافي ما يمكن تسميتهم ثوارا، فالذين حملوا سلاحهم من أجل الدولة المدنية الديمقراطية، سلموا أسلحتهم أما من تبقوا فإنهم إما عصابات مسلحة استمرأت السلب والنهب ومراكمة الثروة، أو أنهم جماعات مؤدلجة تحمل مشروعا لا يؤمن بأي من أطروحات الدولة المدنية الديمقراطية، فاحتفظوا بأسلحتهم ليفرضوا أطروحاتهم التي يرفضها الليبيون وقد ثبت هذا من خلال تحالفهم مع كل التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، وإفشالهم لتجربة المؤتمر الوطني ومن بعده البرلمان كما أن أفكارهم القادمة من كهوف التاريخ ودموية أفعالهم الهمجية التي نشرت الخوف والرعب بين الليبيين، فتحت كل الأبواب أمام كل من يريد أن يتطوع لإنقاذ الليبيين من مأساة مستنقع الدم التي أحاطت بهم، ولهذا فإن خليفة حفتر والعسكريين الذين معه وجدوا حاضنة تمثلت في إقليم الشرق الليبي الذي اكتوى أكثر من غيره بنار الهمجية والإرهاب الدموي، فتطوع عشرات الآلاف من أبناء المنطقة والتحق بهم عشرات الآلاف من أنحاء ليبيا المختلفة ليس لإيصال خليفة حفتر للسلطة، بل دفاعا عن أنفسهم وأهلهم ضد أشد الظواهر تخلفا وهمجية في القرن الواحد والعشرين، ولم يقدم الذين يسيطرون على الجزء الغربي من ليبيا نموذجا مصغرا لدولة مدنية تختفي فيها المليشيات والعصابات المسلحة حتى يحرجوا العسكريين ويقنعوا به بقية الأقاليم والمناطق، بل ظلت المليشيات المؤدلجة والمناطقية والمجالس العسكرية للقبائل وعصابات الجريمة المنظمة والمهربون، يسيطرون على الحياة الاقتصادية والسياسية، يتقاتلون ويتقاسمون الغنائم، ويفرضون الإتاوات على حكومة غير مشرعنة وطنيا عاجزة تبتزها المليشيات التي تقدم لها الحماية ضد المليشيات الأخرى، وبالتالي فإن اختطاف طرابلس من قبل كل هذه العصابات جعل الوطن الليبي بكامله رهينة لهذه العصابات، فإبان ثورة السابع عشر من فبراير كان الثوار يزحفون على طرابلس لاقتحامها وإسقاط نظام القذافي ولم يكن من المعقول ولا من المنطق آنذاك القول اتركوا القذافي ونظامه في العاصمة إلى ما شاء له أن يبقى لكى نتجنب استخدام القوة في العاصمة، فقد يكون دخول العاصمة واستخدام القوة ضد العصابات والأشرار ضرورة لا خيار فيها من أجل إنقاذ وطن وأمة.

على محوري حرب الفيس بوك هذه، تجري محاولة إعادة صياغة تدريجية لمفهوم الحرب التي تجري على الأرض لتصبح حربا جهوية فقط، وبدا هذا واضحا من خلال مفردات ومصطلحات وحجج المتحاربين على رقعة الفضاء الافتراضي، فبدا وكأن الإركانات التي تقود هذا النوع من الحرب قد رأت أن تدفع المتحاربين نحو هذه الهوة السحيقة، لأجل تشكيل رأيين عامين جهويين كل منهما يتخندق خلف جبهة من جبهات القتال الدائر على الأرض، وعلى ما يبدو فإن أحد هذه الإركانات تسيطر عليها قوتان، أولاهما قوة الإسلام السياسي الذي ليس أمامه إلا كسب هذه الحرب بأي ثمن ولكنه يدرك أن آيديولوجيته وأطروحاته يرفضها الليبيون عامة، وبالتالي فلا تصلح كأداة للتحشيد والتعبئة والاستنفار ولابد لهم أن يغازلوا الحس الجهوي في المناطق والمدن والنواحي التي يجرى فيها القتال عن طريق خطاب مجهول الهوية في الفضاء الافتراضي لا يتبنونه علنا، ولكنه يشيع مناخا من التحريض ويستصرخ نخوة العصبة المعتدى عليها في عقر دارها ليهب أهلها خفافا ثقالا لردع غزاة صائلين قادمين من بعيد يحملون معهم خراب العمران والمدن الآمنة.

اما القوة الثانية في هذا الإركان الفيس بوكى فتتمثل في أقلية فعالة تختطف مدنا ومناطق وليس أمامها لجر الكثيرين خلفها سوى ارتداء الدرع والسيف الجهوي والمناطقي بدعوى إنقاذ هذه المدن والمناطق من فضيحة الاستسلام وعار السقوط.
وفي المقابل فإن الطرف الثاني في حرب الفضاء الافتراضي، هو أيضا توجد بين صفوفه أقلية تتبنى خطابا جهويا ولها سوابق معروفة في محاولة خلق وقائع بإنشاء حكومات ومجالس ورفع أعلام وترسيم حدود ولكنها باءت بالفشل لأنها لم تجد استجابة، أما الآن وهناك حرب تجري على الأرض وهناك طرف في حرب الفيس بوك يشيع مناخا يوحي فيه بأن ما يجري على الأرض هو اعتداء جهوي سافر، فإن هذه الأقلية تجد ضالتها وفرصتها في هذا المناخ لتنطلق بدورها هي أيضا في التحريض والمعايرة في محاولة منها لحشد ما لم تحلم بحشده خلفها في السابق.
لا شك أن إركانات الطرف الأول التى أطلقت إيحاءات التوصيف الجهوي للحرب الدائرة على الأرض، تريد وتتوقع ردات فعل جهوية من قبل تلك الأقلية في الطرف المقابل، وبالتالي تجد إيحاءاتها وتوصيفاتها الجهوية مصداقية لدى من تتوجه إليهم بهذا الخطاب لتأليبهم وحشدهم خلفها.
لقد بدا من خلال التتبع لتطورات حرب الفيس بوك الليبية العظمى على المحورين أنها جرت إليها بعض النخبة من المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين وشخصيات معروفة في المجتمع، والتي أخذت تنخرط على المحورين بعضهم يرتدى جبة المدافع عن الجيش وتحرير العاصمة وإنقاذ الوطن، والبعض الآخر يتخفى خلف شعار لا للعسكرتارية ولا لسفك دماء الليبيين ولا لتدمير العاصمة الآمنة، ولكن النتيجة – كما تبدو لنا- هو انخراط تدريجي نحو هوة سحيقة يدفعهم إليها خطابان جهويان لا يفضي أي منهما إلى دولة مدنية ولا إلى نظام ديمقراطي ولا إلى مدن آمنة، بل إلى تقسيم ليبيا إلى أكثر من ثلاث دول ليس في أي منها دولة مدنية ولا سلطة ديمقراطية.

مقالات ذات علاقة

إني بلغت

ميسون صالح

الفيدرالية والأمية السياسية

يونس شعبان الفنادي

أزمة

عائشة الأصفر

اترك تعليق