العربي الجديد
نوال العلي
غالباً ما يبحث قارئ الأدب عن نفسه. إنه فعل لا إرادي يتّحد بعملية التلقي نفسها، وحتماً يلتقي بالآخر وهو يقرأ الرواية والقصة والشعر من حضارات وثقافات مختلفة، ولكن أي لقاء؟ هل بمقدور الأدب أن يغيرنا نحو هذا الآخر؟ هل يمكنه فعلاً أن يهدم التصورات المحمولة منذ قرون تجاه ثقافة ما وأن يبني غيرها؟ وأثناء هذه العملية هل يقاوم القارئ الأدب؟ هل يستسهل الأدب نفسه البناء على ما هو موجود على أن يخالفه؟
هذه التساؤلات اختصرتها “العربي الجديد” في سؤال واحد وجّهته إلى عدد من المثقّفين العرب والمهتمين بالثقافة العربية: “هل يمكن للأدب أن يغيّر آراءنا وتصوراتنا أو يبدّد أوهامنا حول الآخر، حول ثقافة أو حضارة ما؟”
المترجمة المصرية أماني حبشي
عادة ما يصلنا الأدب المتعلّق بالآخر من أكثر من مصدر، الترجمة هي أحد تلك المصادر، والتي ربما بحكم عملي سأركّز عليها في إجابتي. في الفترة الأخيرة، ولانتشار دور النشر، ورد إلينا الأدب من كل أنحاء العالم، بدأنا نتعرف بطريقة أعمق إلى عادات وثقافات الشعوب الأخرى، ومن المؤكد أن وسائل التواصل ساعدت على ذلك إلى حد كبير. وأصبح القارئ متحكّماً في نوعية اختيار الترجمات، وليس الناشر بمفرده، إذ تصل معلومات عن تلك الكتب بكل اللغات. ومن المؤكد أن كل هذا يساهم، بشكل ما، في نقل صورة ما عن الآخر.
ولكن يدفعنا ذلك لأن نتوقف أمام بضعة تساؤلات: هل استطاعت الثقافة في هذه الحالة تغيير الصورة التي لدى الغرب عن الحضارة والثقافة العربية، أم يميل القارئ الغربي عادةً إلى اختيار ما يعزّز أفكاره المسبقة عن ذلك العالم البعيد، حيث تُقهَر المرأة وينتشر الإرهاب والقمع. وهل من ناحية أخرى نختار نحن من خلال ترجماتنا كل ما يعزّز أفكاراً مسبقة عن تلك الشعوب ويرسخها؟ وهل تدفعنا العاطفة أحياناً لأن نميل إلى كل ما يشبهنا، فنقرأ لنابولي “فيرانتي” في الماضي، أو إسبانيا “ثافون” في فترات الحرب الكئيبة، فنترجمها، كما ترجمنا في وقت ما روايات مورافيا لأنها كانت تدعم صورة ما للغرب. وهل للسبب نفسه يُفضل الغرب روايات خالد حسيني، وكتابات نوال السعداوي؟
القاص العراقي خالد شاطي
أظن أن مهمة الأدب النهائية هي تغيير نظرتنا القارة عن الأشياء من حولنا أو توجيهها. ولأذهب أبعد، أظن أن الأدب إن لم يكن الحقل المعرفي الوحيد فهو الأكثر قدرة على الاضطلاع بهذا الدور. وهذه القدرة تكمن في الاستقلالية والصدق اللذين يتحلّى بهما الأدب.
إن التعرف إلى الآخر وتقبّله كما هو؛ مرحلة أولى لا غنى عنها في تغيير نظرتنا عنه. ولكي نتعرف إلى ثقافة ما تعرفاً حقيقاً؛ ينبغي الاطلاع على ما أنتجه أدباء تلك الثقافة، إذ لا يمكن التعويل على ما تُصدره المؤسسات الرسمية من بحوث وبيانات وإحصاءات لا تعدو كونها وسيلة موجّهة لتحقيق غايات معينة تخدم أجندات الحكومات والدول.
وليس سراً أن بعض الدوائر الغربية تلجأ إلى دراسة آداب الشعوب التي ترغب في معرفة أوضاعها العامة وما طرأ عليها من تحولات وتغييرات أو أنها تكلف أدباء من تلك الشعوب بحجج شتى للكتابة عن مجتمعاتهم لتضع استراتيجياتها بناءً على الصورة التي وفرتها لهم تلك النتاجات. فالأدب في هذا المجال هو أصدق الوثائق وأكثرها شمولية وعمقاً.
ويستند الأدب، في أدائه وظيفة التغيير، على مقولة راسخة، وهي أن المشاعر الإنسانية فقط هي ما يجمع الناس ويوحّدهم بغض النظر عن دياناتهم ولغاتهم وقومياتهم وأماكن وجودهم. وهل الأدب إلا تعبير عن المشاعر الإنسانية بطريقة فنية؟ تمكننا لغة الأحاسيس والمشاعر من فهم ذات الآخر وردم الهوة بين الأنا والآخر ليغدو الأنا آخر، وهذه القدرة على التغيير تجعل من الأديب أرفع من السياسي ورجل الدين.
وبالتالي فالأدب يؤسس لمنظومة ثقافية جديدة تنتفي فيها ثنائية (المركز/ الهامش) وثنائية (الاستعلاء/ الدونية) التي تمثلت في الخطابات الكولونيالية التي صوّرت الآخر كمتخلف تابع؛ وسعت لتحقيق الهيمنة الثقافية عليه والخطابات الأصلانية التي سعت لتقدير الذات ورفض تبعيتها للآخر.
عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب
لا أبحث في الأدب الكبير عن المعرفة بقدر ما أبحث عمّا يبنيه، بالخيال والمجاز، من نماذج الحياة والظواهر والإنسان. ما أحسّ به هو مسافة القرب والبعد بيني وبين هذه النماذج، وقد أتماهى مع البعض منها. إن كان من تغيّر في النظرة إلى شيء فهو من أثر هذه النماذج، إن أجاد الأديب بناءها فاتخذت بعداً إنسانياً واستقلّت عن سياق بنائها.
القول بأن الأدب يغيّر النظرة إلى واقع ما، إلى ثقافة ما، إلى الآخر، لا يخلو من إفراطٍ كرّسته مقاربة تقليديّة تعتمد مقولة “انعكاس” الواقع في النص. ما يحدث، فعلاً، هو أن النماذج، وحدها، تدوم. ما الذي جعل دون كيشوت يثير الإعجاب، منذ أربعة قرون، بعد أن توارى سياق إنتاجه؟ قدرةُ سرفانتس على نمذجته، من دون شك. لقد بنى شخصيّة يجد الكثيرون منا أنفسهم فيها: الدونكيشوتي في الحب أو في السياسة أو في غير ذلك…
وهذا لا يحتاج إلى معرفة المرحلة الانتقالية بين الإقطاع المتهاوي والرأسمالية الناشئة التي عاش فيها سرفانتس وأوحت إليه بشخصيّة تسخر، لأول مرّة، من فروسيّة الإقطاع وتهاب، في الوقت نفسه، طاحونةً هي من بواكير التكنولوجيا الرأسمالية. وماذا نمذَج محمود درويش في “ذاكرة للنسيان”؟ قد يقول البعض: الحصار أو المحاصِر أو المحاصَر.
شخصياً، قد أنسى هذا، ولكني لن أنسى العلاقة بالقهوة. أظنّ أني أتردّد في ترشف قهوة عربيّة، شكّاً في أن يكون إعدادها كما وصف الشاعر. يذهب كل شيء ويبقى النموذج.
المترجم والأكاديمي البريطاني جيمس إي. مونتغمري
الأدب هو دعوة إلى الدخول إلى عالم شخص آخر من خلال الخيال: يحثنا على سكنى عالم شخص آخر من خلال كلماته. وبفعل ذلك نصبح حاضرين وغائبين بالنسبة إلى أنفسنا. الأدب هو نبتة برية خالدة توجد رغم كل محاولات تدجينها وتشذيبها: فيها يمكننا أن نجد القوة والإلهام لاستكشاف احتمالات بديلة، ومستقبل منسي، وتخيلات ذاتية قد نعارضها ونقف في وجهها ونخاف من الاعتراف بها.
كل الأدب، سواء كان بلغتنا ومن ثقافتنا أو بلغات ومن ثقافات أخرى، هو مألوف وأجنبي في آن. يمكننا، بالطبع أن نقرّر قبول أو رفض الدعوة التي يعرضها علينا الأدب، ولكن ولكي نرفضها لا بد أيضاً من الاعتراف بها، وأثناء عملية الاعتراف بهذه الدعوة نتغير، نتحول، نتبدل بسببها، الأدب لا يغادرنا ولا يتركنا كما كنا قبل أن نلتقيه.
الروائي والباحث المصري شادي لويس بطرس
منذ عامين، في بوليفيا، ومن دون تخطيط مسبق، تعرّفت إلى تيار “الماكوندو” في أدب أميركا اللاتينية. ففي مدينة “سانتا كروز” التي ترقد على ثروة هائلة من حصيلة تجارة الكوكايين التي كانت مزدهرة في الثمانينيات، وتتعقب فيها العقوبات الأميركية مسؤولين حكوميين متهمين بغسل الأموال لصالح “حزب الله”، كان هناك القليل الذي يمكن لي التعرف إليه عبر عدسة “الواقعية السحرية”. فبين مطاعم الوجبات السريعة العالمية، وسلاسل المقاهي الأميركية، والمباني الزجاجية الشاهقة في حي الأعمال، لم يكن هناك الكثير من السحرية سوى وجود غير مبرر لكنيسة قبطية في المدينة البعيدة جداً.
كان تعرفي إلى الروائي إدموندو باز سولدان، عبر روايته “مسألة الرغبة”، ومن بعده إلى سيرجيو غوميز من تشيلي، ورودريغو فريسن ومارتن ريتمان من الأرجنتين، وخايمي بايلي من بيرو، سبباً لانفتاح باب أمامي إلى ما يطلقون هم أنفسهم عليه من باب التهكم “النيوليبرالية السحرية” أو “الواقعية السحرية دون سحر”.
ففي القارة، التي تكتظّ بأكثر المدن ازدحاماً في العالم، ومرت بعقود من الصدمات النيوليبرالية، لم تعد هناك قصص تدور في الغابات أو القرى المعزولة أو عن البطريرك الديكتاتور. فاسم تيار “الماكوندو” ليس إلا محاكاة ساخرة لاسم قرية ماركيز في “مئة عام من العزلة”، مكتوب بحرف “سي” كبير، لتبدو طريقة كتابته كسلسلة المطاعم الأميركية “ماكدونالدز”. فقرية العزلة تحولت إلى ماكدونالدز شديد الضخامة.
كان التفوّه باسم ماركيز، هناك، جديراً بالسخرية، فبين ما نظنه أميركا اللاتينية وبين ما تمكن معاينته هناك نصف قرن على الأقل من التاريخ والأدب. لكن هذا البون الشاسع، ليس من باب الصدفة أو سوء الحظ. فالروائي التشيلي ألبرتو فوجيت، كان قد صك مصطلح “الماكوندو” بعد أن رفضت إحدى الدور الأميركية نشر أحد أعماله، بحجة أنها لم تكن لاتينية بما يكفي، تفتقد الأصالة كما قالوا.
وبالطبع كان المقصود بهذا افتقادها الإيكزوتيكية، فأعماله هو ورفاقه تدور في المدن المزدحمة وتتكلم شخوصها عبر الهواتف النقالة، وتركب الطائرات، وتأكل البرغر، وتعمل في البرمجة أحياناً.
تبدو إجابة السؤال هنا عسيرة على التحديد، فبالفعل كان لروايات “الماكوندو” أن تغيّر الصورة التي ظننتها دائماً عن أميركا اللاتينية. لكن تلك الصورة الأولى جاءت لنا عبر الأدب أيضاً. وفي الحالتين، تصلنا تلك الصور عبر “الميتروبول”، ومن خلال ماكينة هائلة للفرز والتنقية.
في العربية، ككل اللغات المقهورة، يصلنا الأدب عبر اللغات الأوروبية الكبرى، ومن خلال الترجمات عبرها، وبواسطة خيارات مؤسسات الميتروبول. الإجابة نعم، يشكل الأدب فكرتنا عن الآخر البعيد، بل وعن أنفسنا أيضاً، ويغيرها، لكن يحدث هذا كله عبر ثقب إبرة، وبواسطة آليات لا تضمن بالضرورة أن تكون تلك الصور هي الأكثر دقة أو الأكثر دفئاً في حميميتها أو أقربها للأمانة. لكن من قال إن الأدب يجب أن يكون معنياً بأي من هذا؟
الروائية العراقية عالية ممدوح
في دمي الأول ابتكر لي كلكامش الحل: الأبدية أو الخلود، لكنه وضع لي المشكلة ودفع بي إلى خط هروبي للعيش في صيرورات من النساء والرجال. فالعراقي بسبب عنفه الداخلي لا يفطم من الدنيا واللذائذ والغرام، فيصل إلى أقصى مراتب العشق كما يتقهقر إلى آخر درجات البغضاء. في حركة إيقاع دمي المختلط بالإغريق من قبل سقراط وما بعده، ولعل ما أراه فيهم، ومن داخل لسانهم المتفرد، هو تفوقهم المطلق وإلى اللحظة؛ هو قوة الحياة في نسيج ما تركوا لنا وسجلوا فيه الغاية من الفلسفة، وبهاء ذلك الولع بالفكاهة والسخرية من الآلهة، والتدريب على الضحك من كل شيء وأي شيء، وهذه هي أحوالي شخصياً.
في حركة دمي الجارية، وفي أثناء الحرب الفيتنامية وما قامت به الولايات المتحدة من إبادات جماعية للشعب الفيتنامي، كان لساننا يتلعثم بمفردات اليسار، فتلك الحرب كانت ملهمة حتى على الصعيد العائلي، وظلت تلك الفتاة المشتعلة تسجل تلك الفلسفة المذهلة التي تقول: حولوا الأشياء المدمرة إلى أشياء نافعة، فوضعتها عنواناً فرعياً في روايتي “الغلامة” بعدما تم طحن صبيحة ورمي جثتها في دجلة. في مجرى دمي المختلط وبدون تبسيط عاطفي، أرى قضيتنا الفلسطينية في المواجهة مع أشر أنواع الاحتلال.
في الأرض المحتلة غير قابل للتراجع قيراطاً واحداً. لعلي تركت قوة الفكر الأوروبي للنفاذ إلى دمي الأخير وعبر الفنون، على رأسها الموسيقى واتقاد حمى العلوم واستحضار أوبئة وحشية افترست وتفترس كل شيء في طريقها قد لا يناسبها اسم “داعش” كعنوان أخير لما يجري علينا وضدنا.
الشاعر والمترجم المصري ياسر عبد اللطيف
لا أعتقد أنّها مشكلة الأدب أو الثقافة التي صدر عنها، أن ترتسم صورة خرافية أو مبالغ بها، أو قل نمطية عن تلك الثقافة والشعب الحامل لها، بل هي مشكلتك أنت كقارئ لو تصورت أن البشر يحبون ويكرهون ويصابون بالجنون ويتهمّشون ويتعرضون للاستغلال بشكل مختلف من مكان لآخر، ووفقاً لخصوصية ثقافتهم. الأدب كما أتصوّره يتعامل مع ما هو جوهري وثابت بين كل الثقافات، ومن هنا تأتي عالميته.
عندما تقرأ كاوباتا مثلاً، قد تتأكد لك الصور النمطية المتداولة في العالم كله عن طقوسية الثقافة اليابانية وولع اليابانيين بالتقاليد وعنايتهم الفائقة بجلسات ارتشاف الشاي وأنواع الفناجين والأكواب. لكن خلف هذه التفاصيل الثقافية نفذ الكاتب الكبير إلى ما هو إنساني عابر لتلك الخصوصية الثقافية الفريدة، واصلاً إلى الشِعر كجوهر جمالي للكتابة الأدبية.
تكمن المشكلة من وجهة نظري في تسييس التداول العالمي للأدب، وإخضاعه لمنطق علاقات القوى في الصراعات الدولية، ولمنطق السوق طبعاً، المتعارض بطبيعته مع فكرة الأدب نفسها. أي “تداول حر” للأدب في سياق عالمي يستدعي تحريره من تلك العلاقات، وهي المهمّة الأصعب.
الشاعر والمترجم السوري جولان حاجي
للأفكار الجاهزة سحرها. يتكرّر رجوعي إليها بعد محاولاتي الفاشلة لإثبات بطلانها. كثيراً ما انطلقتُ منها ثم هجرتها لأعود إليها. فُتنتُ بملاحم النرويج حين قرأتُها وأنا صغير في كتب للفتيان أصدرتها وزارة الثقافة السورية. هل اهتممتُ بالنرويج لأن الدنماركيين احتلّوها، وتخلو أرضها من العقارب، أم لأن بريد أوسلو طافح بالخسارات الفلسطينية؟
قادتني ملاحم النرويجيين القدماء إلى ملاحم كنوت هامسن، وربما كانت زيارة ودّية قام بها الروائيُّ الشيخ إلى هتلر، بعد اجتياح النازيين أوسلو، قد ألهمت عنوان ملحمة نرويجية معاصرة هي “كفاحي” لكنوسغارد. حصار الحياة المعاصرة للروح قد يقود إلى مسرحيات جون فوس أو قصص توماس إسبيدال، وعلى الأخصّ قصائد تور أولفن الذي تخيّل “ضبعاً مصاباً بالفصام يحدّق بقفل من عظام صغيرة”. لكنّي أريد أيضاً العاديّ الذي يتقاسمه الناس.
أمام الأفكار الجاهزة التي تستدعي فوراً أن العرب والمسلمين لا يشربون الخمر ولا يقربون لحم الخنزير، أكتب: “ولكنّهم يشربون الماء”، وأدعو نفسي لتحلم بمسرحية “بير غونت” لإبسن حين تُعرض بين الجبال قرب بحيرة غالا.
لعلّي حينئذ سأكون بصحبة ساميّين من رعاة الرنّة الذين ظُلِموا في رقيّ الدول الاسكندنافية المتحضّرة. السنة الفائتة، في أوسلو، سمعتُ كيف تبادل ساميّون ولاجئون أكراد خبرات الرعاة في تقديد اللحوم، وكيف ذبحوا معاً أكثر من وعل تحت شجرة عيد الميلاد.