لا شك أن ثمة عددا كبيرا من المستشرقين ينطلقون من نزعة استعلائية وعنصرية في تعاملهم مع تراثنا الإسلامي والعربي (ومع تراث الشعوب غير الأوربية عموما)، ولعل بعضهم كان موظفا من قبل أجهزة بلدانهم الاستخباراتية، وأنهم انتقائيون في ما يختارون الاهتمام به والتركيز عليه من هذا التراث.
إلا أنه من الإجحاف أن نضعهم جميعا في مستوى واحد، وضمن خانة واحدة، فثمة منهم من كانت أهدافه علمية (شبه) محضة. كما أن نسبة الانتقائية إليهم فيها تعسف. إذ من منا ليس انتقائيا؟!. نحن أيضا انتقائيون في ما نترجم عن الغرب. فالدينيون منا يتصيدون الكتب الغربية الداعمة للإيمان والدين. والعلمانيون ينتقون ما يوافق توجهاتهم. ونحن انتقائيون حتى في موقفنا مع تراثنا ذاته. فالشيعة يركزون على تراث الشيعة، والسنيون يركزون على تراث السنة، والتحرريون يركزون على الفكر التحرري في تراثنا من مثل المعتزلة والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، وسواهم، والأدباء والفنانون يتوجهون إلى الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وأدب المتصوفة.
المشكلة لا تكمن في الانتقاء. وإنما تتمترس وراء محاولة فرض التوجه الواحد وطمس ما عداه، بدلا من إتاحة الفرصة للتنوع وحرية الانتقاء. فحرية الانتقاء من حرية الفكر.
نعود الآن إلى مسألة المستشرقين التي افتتحنا بها
نقاشنا هذا. وفي هذا السياق أنا أرى أن للمستشرقين علينا فضلا لا يقدر
بثمن. لأنهم هم الذين كشفوا لنا كنوزا كانت مطمورة من تراثنا. وبعثوا، من
النسيان والمجهولية، مفكرين أفذاذا ما كنا لنعرفهم لولاهم.
وهنا أريد أن “أنتقي” مثالين مهمين:
ابن رشد، وابن خلدون.
لقد ظل الأول (520- 595 هـ/ 1126- 1198) مجهولا، أو يكاد، لدى المثقفين
العرب والمسلمين حتى ما يعرف بعصر النهضة العربية. إذ “لم يشتهر ابن رشد في
العالم الإسلامي كما اشتهر في أوربا. بل لم يذع مذهبه ونسيت مؤلفاته بعد
موته” (1). وحتى مجمل سيرته لم يعرف إلا بعد أن “نُشرت منها مقتبسات كافية
بنصها العربي [مأخوذة من مؤلفات عربية مخطوطة] في ذيل كتاب لرينان عن ابن
رشد والرشدية طبع بباريس الطبعة الثالثة سنة 1866 واطلعنا عليها في تلك
الطبعة، وعليها جميعا نعتمد في تلخيص ترجمة الفيلسوف” (2).
لقد كان الفضل في تقديم ابن رشد للعرب للمستشرقين الألمان الذين أولوه اهتمامهم. “فقد قام أوجست موللر (Muller، Aug 1892 -1848) بنشر (رسالة التوحيد والفلسفة) لابن رشد، مع ترجمتها إلى الألمانية، (ميونيخ 1875)، ثم ما وراء الطبيعة لابن رشد أيضاً (ميونيخ 1885). والمستشرق فرانكيل (Fraenkel، 1909 -1855) أيضاً اهتم بابن رشد فنشر له (ما وراء الطبيعة) برلين (1884)، نفس الكتاب حظي بعناية مستشرق آخر هو هورتين حيث أعاد نشره سنة 1921، وله دراسة أخرى أيضاً عن (رد ابن رشد على الغزالي) 1913. كما كتب عنه مرقس يوسف موللر (Muller Aug 1855 – 1809) دراسة بعنوان (ابن رشد فيلسوف وفقيه) (ميونيخ 1859)” (3).
في العربية صدر أول كتاب عن ابن رشد من قبل المفكر اللبناني فرح أنطون بعنوان “فلسفة ابن رشد” سنة 1902، وانتبه إليه المفكرون النهضويون العرب.
أما ابن خلدون (732- 808 هـ/ 1321- 1406) فقد ظل مجهولا وأثره معدوما في الثقافة العربية أربعة قرون بتمامها بعد موته إلى أن جاء المستشرق الفرنسي سلفستر دو ساسي (1758- Silvestre de Sacy (1838 الذي نشر فصلين من المقدمة سنة 1806
________________________________
هوامش:
1-https://www.researchgate.net/publication/326449792_alflsft_alqlanyt_nd_abn_rshd
2- عباس محمود العقاد، ابن رشد (سلسلة نوابغ الفكر العربي)، دار المعارف، ط6 (د. ت)، ص 18.
3- http://www.arabicmagazine.com/arabic/articleDetails.aspx?Id=4164