قصة

الداليا – الحلقة الثانية

الدالـيا.. قصة معاناة ليبية 

حسين تربي

.

– انت تحرث في البحر

– مش فاضيين لمواضيع المحابيس والصيّاع

– ولدك هذا المفروض انقطعوه طروف طروف ونرصوكم حتى انتم في الضويقه

– انت السبب لأنك ماعرفتش كيف اتربيه

وكشف احد المخبرين الثوريين بدون ان يدري عن مكان اعتقال محمد، وذلك عندما وصلت به الغطرسة الثورية وقلة الأدب والدنأة ذروتها وقال في تكبر سادي للحاج بوداليا: (انت شيباني مايتحشمش على وجهه ولسانك طويل يبّي التنقيص ومكانك والله الا مع ولدك في بوسليم.. هيا بالك درّق وجهك والا حيكون فيه مفاهمه ثانيه معاك.. ريّح روحك يا راجل راهو فرخك صايع وخاين ومايستاهلش الخير..)!

أكثر من عشرة سنوات قضاها الحاج بوداليا في صراع مرير مع الايام واللامبالاة الثورية والاحاسيس والهواجس المحبطة. مرة تجده في قمة التفاؤل باقتراب يوم اطلاق سراح ابنه.. ومرة أخرى تجده وقد أخذ منه اليأس كل مأخذ، فينتكس هذا العجوز المسكين ويعتكف ببيته لأسابيع عديدة.

لكم تمنى أن تعطى الفرصة لوالدة محمد المسكينة لترى ابنها المظلوم ولو بزنزانة سجنه في بوسليم. وعندما يتغلب عليه الشك في وجود محمد حيا، تراه يتمنى أن يسلمه “الحرس الثوري” جثمان محمد ليدفنه بيديه بجوار شقيقته عائشة التي توفيت بأحد مستشفيات تونس اثر اصابتها بمرض ما، لم تتمكن خبرات المعسكر الشرقي البلغارية من اكتشافه في “مستشفى الثورة” في ليبيا ولم يجدوا له العلاج والدواء في “عيادات الفاتح” الخاوية على عروشها. قيل أن المسكينة عائشة توفيت بسبب الحزن والحسرة على اختطاف الثوريين لشقيقها محمد.

في يوم من ايام تلك السنين الحزينة، أضطر الحاج بوداليا لبيع قطعة أرض يملكها بمسقط رأسه في تاجوراء بسعر رمزي لأحد الثوريين “الواصلين”.. مقابل خبر كاذب يقول أن محمد بخير ويبلغهم السلام وسيطلق سراحه مع احتفالات “عيد الفاتح” القادم!

أتت أشهر رمضان كثيرة وبعدها أعياد فطر تخلت عنها فرحة الأعياد. أتت ومضت احتفالات كثيرة بالفاتح وعيد الوفاء وقيام سلطة الشعب، ومع حلول كل تلك المناسبات الدينية والثورية تكبر الآمال في رؤية الغائب حرا طليقا كهدية من “الاحرار” للشعب الحر! ثم تتلاشى تلك الآمال وتنطفي.. تتبخر كما تبخرت اماني ووعود كثيرة استمتع الحاكم ومريديه بتوزيعها على العامة في خطاباتهم وتحريضاتهم ومداخلاتهم ولم ينفذوا منها سوى التهديدات.

في يونيو 1996، وصلت أسماع الشعب الليبي أخبارا تم التأكد منها فيما بعد عن حدوث مجزرة قتل بالجملة بعد حركة عصيان واضراب سلمي من قبل المعتقلين والمساجين المغيبين في مجاهل سجن بوسليم سئ السمعة بدون محاكمة ولعشرات السنين. وأكد شهود العيان سقوط حوالي 1200 ضحية في سجن الرعب الثوري ذاك. قائمة طلبات المعتقلين الذين كانوا معتصمين بساحة السجن تتلخص في المطالبة بتحسين ظروفهم الحياتية ومعاملتهم كبشر وليس كحيوانات تختم مؤخراتهم بختم ” خائن للثورة”! من تلك الطلبات التى ارادوا مناقشتها ومفاوضة السلطات الارهابية بخصوصها: توفير العلاج والدواء.. تحسين الوجبات والغذاء.. السماح للأقارب بالزيارة.. توفير بعض الكتب.. النظر في قضاياهم بحضور محامين يختارونهم بأنفسهم.. لا شئ آخر. ضروريات ستجدها في سجون الدول الديمقراطية التي تعي معنى حقوق الانسان وتعطي قيمة لحياة البشر. ليس بالضرورة دائما أن تتم الاستجابة لكل طلبات المساجين المضربين والمعتصمين.. لكن الثوريين اتبثوا جذارتهم مرة أخرى في تفعيل مقولة “اطلق النار اولا ثم فاوض”. وبعد ان استمع السجّان عن طريق الهاتف للأمر العسكري القاضي بتوفير شئ ما لأولئك المساكين، رد على محدثه في الهاتف قائلاً – حاضر سيدي!

يقال أن ليبيا يحكمها جن أو شبح يسمونه “سيدي”! والدليل على ذلك أن الكثيرين من الذين سمعوا مدير السجن يردد “حاضر سيدي” هذه في الهاتف، قيل أنه لم يكن يتحدث مع رئيس دولة.. ولا مع رئيس وزراء.. ولا مع وزير داخلية.. وليس مع رئيس شرطة عسكرية أو مدير ادارة السجون او وزير العدل ولا شارون ولا حتى ابليس! وصله الأمر من ” سيدي”!

هذا هو سر من الاسرار وراء تفضيل مرتكبي الجرائم التي حلّت بليبيا للنظام المسمى “بسلطة الشعب.. لأنه هو “النظام” الوحيد الذي يحميهم ويضعهم فوق القانون.. ولأن المنتج لتلك “القوانين” انتج القوانين والتشريعات التي تحميه فقط.. وليس التشريعات التي تدينه. في ظل ” سلطة الشعب” يستطيع الحاكم والمسؤول أن يفعل ما يريد بالشعب وبالسلطة وبالثروة وبالسلاح.. فلا أحد مسؤول في غياب القانون والدستور. من أكبر كبير في ” سلطة الشعب” الى أصغر صغيرهم، عند حدوث النكبة ووقوع المصيبة، سنسمعهم جميعا يكررون: أنا لا أحكم.. أنا ليس لدي سلطة اصدار اوامر.. أنا لم أقل ذلك.. أنا لم أفعل.. أنا لم أقصد وهكذا. تهرب ساذج ومخزي من المسؤولية تحت حماية ” الحل النهائي”!

وبعد “حاضر سيدي” تلك، اعطى مدير السجن الأمر باطلاق الرصاص على المساجين العزل، ليسقط المرضي والجياع والمظلومين الأبرياء بالمئات في ساحة سجن الفاتح.. باسم الثورة وباسم القائد وباسم الحفاظ على الامن.. ونام ” سيدي” مرتاح البال بعد أن أبلغوه بأنهم تخلصوا من المساجين وطلباتهم وأن المهمة نفذت وأنه لا حاجة للتفكير في امور توفير الغذاء والاطباء والعلاج وكل تلك المصاريف الاضافية التي لا تتحملها خزينة بيت مال الثورة! كل ما علينا توفيره لهم الآن هو القبر الجماعي!

ولكي تمتص الغضب الشعبي الذي كان سيحدث لا محالة في حالة الاعلان الرسمي عن الواقعة، رأت القيادة السياسية وادارات المخابرات الداخلية أن يتم ابلاغ اقارب الضحايا على دفعات وفي فترات زمنية متفاوتة.. واليوم في هذا السوق الشعبي المتواضع وفي زمن الثورة والاوهام، أتى الدور على الحاج بوداليا لتبلغه غربان الزمن الثوري الشاذ بمقتل ابنه محمد في سجن بوسليم.

فلماذا لليبي حصة من الرصاص الثوري ان طالب بحقه وان قال لا لطاغية لا يدفن جثامين قتلى سجونه مثل بقية البشر؟

أتى هذا الضابط الثوري المتغطرس برفقة حرّاسه ليبلّغ هذا العجوز الليبي المسكين أن ابنه محمد قتله رفاقه في سجن بوسليم. هذا الخبر المحزن الذي أحضره الضابط ورفاقه للحاج بوداليا، هو أحد السيناريوهات التى كان الحاج بوداليا يتوقع حدوثها منذ اختفاء ابنه على أيدى حراس ثورة قامت فقط من أجل مآرب شخصية. في كل يوم من أيام سنوات غياب محمد عن أهله، توقع والده وصول مثل هذا الخبر المحزن. سنوات عجاف طويلة تعلم فيها الشعب عدم الثقة في نوايا سكان القصر الثوري والخيمة اثورية ومثاباتها.

بعد سماعه للخبر المحزن، انهار الحاج بوداليا فوق كيسا كبيرا للحمص الناشف وأخذ ينذب حظه وحظ ابنه وهو يلطم وجهه الشاحب ويضرب رأسه بكفيه اللذان أكلت قسوة الزمن قشرتهما وتركت بهما جروح ونذوب مشقة الكفاح الشريف من اجل البقاء، على الرغم من انتمائه لدولة نفطية كان من المفروض أن تسخّر قيادتها اموال النفط في تحسين مستوى معيشة الشعب وليس في مغامرات خارجية تنقصها الحكمة والنضج.

من قال أن الرجل الليبي لا يبكي؟ ان ما ذرفته عيون الليبييون من دموع علناً وفي السر في زمن الحكم العسكري الثوري يفوق ما ذرفته العيون الليبية في العهد الملكي بكثير!

انهمرت دموع العجوز المنكوب مثلما تنهمر دموع الطفل المحروم من فرحة العيد، وبدأ يهز رأسه في حيرة.. في يأس.. وفي كآبة.

الحاج بوداليا: انا لله وانا اليه راجعون.. حسبي الله ونعم الوكيل.. داروها فيك يا اوليدي.. قتلوك فروخ الحرام.. الله لا يسامحهم.. الله لا يسامحهم.. أأأه يا ناري يا اوليدي قداش عانيت.. سامحني يا اوليدي.. بوك مش راجل.. يا ريتها جت فيا انا يا غالي.. ياحاج خليفة.. تعالى يا خوي خلوفه تعال.. الحقني يا خوي.. المصيبة صارت.. داروها فينا مرة ثانيه فروخ الحرام

الضابط: فروخ الحرام جماعته في الحبس هم اللى قتلوه.. وسّع بالك يا حاج.. تراهو الاعمار بيد الله وهذا مكتوب وقسم ونصيب و

الحاج بوداليا: الله ايفرّق فراقكم.. الله يلعن هاداك النهار لاسود اللى شفناكم فيه.. صدقناكم خنتونا.. احترمناكم ضربتونا.. شبّعناكم جوعتونا.. احنا السبب في المصايب اللى جاتنا من وراكم.. امتى نتعلمو؟ امتى نتعلمو؟ منين جانا كل هالصبر؟ يا ويلكم ويا سواد ليلكم لمّا ايجي يومكم واتضوقو عذاب القبر.. الله لا يسامحك يا ظالم.. الله لا يسامحك

الضابط: اسمع يا شيباني، انت راجل كبير في السن وهذا هو السبب اللى علشانه مازلنا قاعدين محترمينك.. حنديرو روحنا ماسمعناش كلامك هذا.. احسنلك تحترم نفسك وتعرف كيف تتكلم.. احنا متعبين روحنا بيش انجوك ونبلّغوك وانت قاعد تفتح في فمك علينا.. ضم لسانك خيرلك.. هيا عظّم الله أجرك وفي لامان

الحاج بوداليا: في لامان؟ توينه لامان الشفاعة يا رسول الله؟ توينه لامان يا سبحان الله؟ هو فيه حد يشوف لامان بعد شوفة خلقتكم.. الله يلعن افعالكم يا كلاب الدم.. اقتلوني حتى انا يا مجرمين يا اللى ما تستحوش.. ودايرين روحكم ليبيين وتحبو بلادكم.. خزّيه عليكم زريعة شر وضنوة كذب ونفاق.. حسبي الله ونعم الوكيل.. يا حاج! يا حاج خليفة! تعالالي يا اوخيي وشوف هالمصيبة اللى جابوهالي وجوه النكد.

كيف سيخبر الحاج بوداليا زوجته والدة محمد بهذة المصيبة؟ كيف سيبلّغ اخوات محمد، نجاة ولطفية وهناء المسكينة؟

هناء المريضة نفسيا والتي لم تصدق قصة اختفاء محمد أبدا، صارت تعيش حياة أخرى لا مجال فيها لاختفاء شقيقها محمد. تارة تجدها تغسل ملابس الغائب وتنظمها له في دولابه وهي تقول لأمها (هيا هيا يا أمي.. آهو دبش وحوايج محمد واتيا ومكويّه.. يللا نمشو انطيبوله الغذا.. راهو محمد قريب ايجي). وترد عليها امها في أسى قائلة (صحّيتي يا بنيتي.. لكن يا هنيوه قالو محمد حتى اليوم ما يقدرش ايجي.. وبوك قال..).. فتقاطعها هناء ( بوي ما يعرف شي.. توّا انا نمشي اندير لمحمد الغذا بروحي.. لكن راهو بندس لحيمه باهيا وكبيره لمحمد.. تخيره محمد عطّل علينا؟ زعما حرجان؟

وعادة ما تحاول الأم المنكوبة مسايرة هناء المسكينة لكن فقدان الامل يطغى على رد الام المكلومة ( يا بنيتي لا عندنا لحم ولا محمد جاي اليوم.. واذا كان محمد حرجان عنده الحق يا بنيتي. وفي بعض الاوقات الأخرى قد نجد هناء تتجاذب اطراف الحديث مع الغائب شقيقها محمد وكأنه جالس الى جوارها -.. وراس اوخيي تجيبلي حلوى شاميه.. كان هادا والله ماني دايرتلك الرشده.

هذا حال هناء الأخت الصغرى… نجاة الأخت الكبرى، تزوجت قبل اعتقال محمد بشهرين. ومنذ انتقالها الى بيت الزوجية في مصراته، لم ترى اخيها محمد… عائشة تعرفون ما حدث لها في رحلة علاجها الى تونس… لطفية التي رأت نور هذة الحياة بعد محمد، عانس ولم تتمكن من مواصلة دراستها. السبب وراء عنوستها وعدم تمكنها من مواصلة دراستها هو شقيقها المفقود محمد! ففي الفقه القذافي الثوري وفي نظر من لا يحترم آراء الآخرين ويفرض على الآخرين احترام أفكاره، محمد يعتبر “كلب ضال” و”زنديق” وخائن! فمن يرضى بقبول الزواج من أخت ” كلب ضال” في المجتمع الجماهيري السعيد؟ وكيف يسمح لشقيقة “زنديق” بمواصلة تعليمها؟ أربعة بنات وولد واحد هم ما وهب الله الحاج بوداليا من بنون. قد تدركون الآن مكانة الابن الوحيد في العائلة.. والمغيّب بفرمان ثوري.

سمع الحاج خليفة نداء جاره، فرمى صندوق الخيار ارضا واندفع باتجاه محل الحاج بوداليا.

الحاج خليفة: لاباس يا حاج؟ خيرك شني فيه؟ قعمز قعمز يا راجل.. غير اهدا شويه وخبرني شني فيه.. شني هالجماعه اللى كانو عندك؟ خيرهم شني يبّو؟ مخانب والا بوليس والا شني؟ شني فيه خبّرني

الحاج بوداليا: الزوز يا خلوفه الزوز.. مخانب وبوليس.. حاميها حراميها يا خلوفه.. يا ويلهم من اللى يمهل ولا يهمل.. أأه من ها الايام السودا.. يارب.. يا رب.. فرّج علينا هالغمه يارب….

مقالات ذات علاقة

ثلاثة اوجه للشاعر الفيتوري

أحمد إبراهيم الفقيه

العـــقاب

إبراهيم الصادق شيتة

عـبـور

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق