عبدالعظيم باقيقة
في قريتنا الوادعة من نصف قرنٍ مضى وأكثر، لم يكن الموت بالمجان كما الآن ، عجائزنا الطيبات كنّا يستقبلن خبر الوفاة بشهقة تتبعها حركة سريعة للكف التي ترتفع ملامسة للصدر ً، وعمر المتوفٓى كان يُحدد بشدةِ صوت الصراخ ، وإذا صاحب الصراخ خبطٌ على صندوق كانت عجائزنا يردفن شهقاتهن بجملة (يستر الله الباين فيه أصغير) بينما يخبط الرجال أكفهم مرددين (لاحول ولا قوة إلا بالله) ، أما إذا كان خبر الوفاة غير صحيح ، أو ظُنّ خطئاً أن حالة الإغماء التي أصابت المرحوم وفاة، فبمجرد التأكد من ذلك ترتفع الأصوات بالحمد وبعبارات الفرح التي كان أكثرها استعمالا عبارة (أجعن كل عيطةً كذابة)
المرة الوحيدة التي لم تزعج زيارة الموت سكان القرية كان يوم وفاة (لكيحل) وهو عجوز تجاوز المائة وكان ( معياناً ) بدرجة لا تُصدق ، فعين (لكيحل) رحمه الله لا تؤدي إلى كسر أو عطب مؤقت بل كانت كفيلة بإرسال من تُصبهُ فوراً وعلى وجه السرعة إلى العالم الآخر ، لذلك عمّ السرور القرية ولم يُسمع صدىً لأي شهقة فيها، الأمر الذي كان يؤكد أن (لكيحل) رحمه الله رحل غير مأسوفٍ عليه ، بل يقال أنّ احد ( شيّاب ) القرية قال عقب سماعه الخبر بلهجة لم تخلُ من فرح (فليرحمه الله…. أستراح وريّح).
اليوم اختلف الحال ، اختلف الحال تماماً، كبُرنا وغادرتنا طفولتنا وعجائزنا الطيبات ، ورحلوا (شيّابنا) تاركين بذاكراتنا المنهكة صدىً لطقطقات مسابحهم وبقية من رائحة (جرودهم ) الناصعة البياض كقلوبهم ، واختفت شهقات الموت من قريتنا التي كَبُرَت وازدحمت بالأموات ، بل صبح كلٌ منا يكاد يشهق متعجباً إذا اكتشف بعد استيقاظه إذا نام ، أن رأسه لا يزال مستقراً بين كتفيه .