قصة

بطاقة زفاف مثيرة للشفقة..

فاطمة فحيل البوم

من أعمال التشكيلي محمد بشير
من أعمال التشكيلي محمد بشير


في مثل هذا اليوم قبل سنتين….

أتململ على فراشي في غرفتي، فصل الخريف باهت كلون أوراقه المتساقطة من الأشجار، كل شيءٍ منطفيء في هذا الفصل، أجرّ قدماي بالكاد لصالة المنزل….

في يدي هاتفي المحمول، داخل الشبكة العنكبوتية وتحديداً ((الماسنجر)): (وتي سفرة القهوة شوية ونوصل).

 لطالما انتظرت هذه الرسالة بضعة أشهر، الانتظار المبرح ضريبةً يجب أن تدفعها عندما يكون أقرب الأشخاص إلى قلبك “طالب طب”

كانت الرسالة من (آية) ابنة عمي وشقيقتي بالمشاعر.

نهضت بعد دقائق من الكنبة التي تتوسط صالة المنزل متجهة للمطبخ ؛ لأحضّر فنجانين من القهوة…

نادين نحسبك معانا في فنجان قهوة أنا وآية!!

يصلني صوتها: (لالا، أكيد ح نقعد نشوفلكم ونتعلم كيف يشربوا في القهوة)، أردفت نادين بلهجةٍ تشوبها السخرية.

صوت جرس المنزل يتعالى للمرة الثالثة على التوالي، تنهض نادين مُسرعة لتأخذ آية بالأحضان. ولكن سرعان ما خاب ظنها، لم تكن آية هي من خلف الباب، رجعت تتأفف لمكانها وفي يدها بطاقة زفاف.

(عندنا عرس وأخيراً): قلت لها وأنا أضع سفرة القهوة وبعضاً من (الحلويات الزمنية) على الطاولة ومتجهة لأجلس بقربها.

لم تردّ نادين!!!

شاردة، اكفهرت ملامح وجهها فجأة…

نادين!!

أناديها ولكنها لا تجيب!

تنهض بناظرها من على البطاقة باستغراب ودون أن تنبس بحرفٍ واحد! ملأ الاستغراب هاجسي هذه المرة! ظننت بأنها تريد أن تقرأ على مضض أو ما شابه ولكن ملامح وجهها تؤكد النقيض لظنوني الواهية، أخذت البطاقة من يدها وأنا أردد من العروس؟!

(تصدقي إنه عرس شهد بنت عمي عمر صاحب الكوشة اللي في راس الشارع!) تقول نادين.

لم أكمل البطاقة التي بدأت في قراءة كلماتها للتو ولم يصاحبني الفضول لتكملة بقيتها من الأساس… جزمت بيني وبين نفسي أنها تمزح: ‘‘تبصري’’!.. قلت لها..

أمعنت النظر جيدا في الكلمات المكتوبة على البطاقة -رغماً عني- حتى وصلت لاسمها، فأيقنت أنه واقع! ذُهلت، وباتت علامات التعجب منحوتة على وجهي.

شهد ابنة الجيران التي لا زالت تدرس في المرحلة الأساسية، وتبلغ من العمر أربعة عشر ربيعاً ونيف، طفلة قاصر غير مؤهلة للزواج ولا حتى لمسؤولية نفسها.. كيف لوالديها أن يفعلا جريمة كهذه!!

قبحكم الله يا جهلة…

شهد!

أذكرها تماماً، فمنذ أشهر قليلةٍ مضت، وتحديداً في زفة ابنة عمها؛ كانت تحمل مُصحفًا، وإكليلاً من الياسمين يطوق شعرها الذي ينسدل على كتفيها، ونظراتها البريئة كطفلة ملائكية، واليوم هي العروس التي ستزف إلى بيت زوجها..

قاطع كل هذه التساؤلات صوت الجرس مرةً أخرى، خانتني قدماي أن أتحرك بينما قفزت نادين لتأخذ آية في أحضانها علها تطفئ غليل الاشتياق الذي في قلبها…

تناست نادين أو تجاوزت صدمتها الذي قبل حين أو لم يعيرها الموضوع اهتماماً من الأساس لم أكن أعرف!!

لم أعرف أيضاً إن كنت قد بالغت أنا في ردة الفعل داخل نفسي!! الحقيقة عجزت في تخطي هذه الكارثة الذي شارفتْ على الوقوع…

حضنت آية، كنت أشعر أنني أختبئ في أحضانها خوفاً من كل هذا العالم ووحشته، كان حضني لآية يبعد أميالاً عن حضن نادين لها…

 حضن الاشتياق واضح، تفضحه الأعين وحضن الخوف تفضحه دقات القلب التي ترتعد خلف أجسادنا!

أخذنا الحديث ليلتها إلى ساعات الفجر الأولى، أنهكني السهر حتى نمت دون أن يرهقني التفكير في شيء!!

مضى يومين تقريباً.. وجاء الحدث المرتقب..

يوم زفاف الصغيرة!!!

‘‘بتمشي لعرس شهد؟’’.. تقول آية الذي وصلتها بطاقة زفاف أخرى قبلاً مني.

أومأت لها بعد شرود، بهز رأسي، موافقة.

تلك الطفلة التي تترك عالمها الطفولي؛ غرفتها، دراستها وحتى والديها. (طفلة) ذلك ما تنظر لها به عينيّ، لا يزال الكثير من السنين حتى تدرك سن البلوغ، حتى تدرك سن الرشد، حتى تدرك سن الإدراك والنضج العقلي و الجسدي !!

بالكاد تلون معالم الأنوثة جسدها الواهن، ولم تصل حتى إلى مشارف السن القانونية.. فـَكيف يحصل هذا!!

في الحقيقة لا أعلم لماذا أخذ موضوع شهد كل هذا الحيّز من اهتمامي وتفكيري؟!

ربما لأنني أهتم لأمرها!!

أو ربما لأن هذه الظاهرة الغبية أخذت تستشري في المجتمع!! حتى أصبحت تنذر بحلول كارثة..

أسرح بخيالي..

يا ترى!.. ما الأسباب التي تجعل الآباء والأمهات يرمون أطفالهن في نفق لا مخرج له.. حيث كل الطرق مسدودة!.. تنتظرهن أعباء ومسؤوليات يصعب عليهن -على صغرهن- القيام بها في هذا السن.

وأيّاً كانت الأسباب، لا أجد أي مبرر وأي تصالح مع هذه الفكرة..

اقتربت ساعة الزفاف، ولنقل -كما يقولون- زفاف شهد لعريسها. ارتديت ملابسي لأذهب إلى زفاف طفلة. ورغم مقاطعتي لدعوات كثيرة في تلك الفترة، إلا أن فضولي لم يجعل أمامي مجالا لرفض تلبية تلك الدعوة..

ما أن دخلت القاعة حتى وقعت عيناي عليها وهي تجلس في تلك المنصة المكللة بورد الأرجوان، لعله يخفف من توتر هواجسها..

هل يا ترى تعرف ما طبيعة الحياة التي تنتظرها بعد سويعات!

تعرف كم من الوقت الذي تتطلبه كي تعيش يوما واحد في حياة مليئة بالمسؤوليات!. هل هي قادرة على دخول تلك الدوامة!. هل ترى والدتها فيها الأهليّة لكل الأتعاب التي ستقابلها!!  

اقتربتُ منها، ازدردت ريقي بصعوبة، تمعنت في مقلتيها جيدا لعلَّني أقرأ سبباً واضحا، أو أرى معالم السعادة فيها، أو الخذلان، سرعان ما اضطربت هواجسي، لم أستطع التركيز، تلعثمت كلماتي:

– مبروك شهد حبيبتي.

– شكراً.. حضورك أسعدني، الفال عندك، ردت بصوتٍ طفولي متهدّج!!

احتضنت عينيّ دمعة بالكاد أخفيتها.

 رجعت للطاولة التي أجلس عليها رفقة بنات عمي وأختي وبعض الصديقات، لا أعلم لما سهى عقلي عن حديثهن، حتى أنني طوال الحفل لم أشاركهن صخب تلك الأحاديث.

ما هما الا ساعتين، وأتى زوجها، لـِيزُفان على أسماء الله الحسنى.

زوج بعمر والدها!!

يا للهول..

أي هراء هذا!!

حقيقةً ارتجفت، سقطت دمعتي التي جاهدت كي أخفيها.. هممت للخروج من قاعة الزفاف وكأنني خرجت من مأتم إحدى أقرباء قلبي. لا أعرف إلى يومنا هذا ما سبب بكائي يومها!

وتعجبّت: لماذا شهد دون أختيها، رغم أن إحداهن في بداية عقدها الثاني من العمر، والأخرى في منتصف العقد ذاته!!

ثمة أسئلة صارعت عقلي ولم أجد أي دهاليز لأعبر منها وأجد تفسيراً واحد فقط لكل هذا حينها!

ربما اليوم بعد مرور ما يقارب السنتين من ذلك الحدث، ووجود شهد بمنزل أبيها مطلقة تنتحب ومعها طفلاً ترعاه، وتحمل اسم الطفلة الأم أيضاً، جديراً بأن تنقشع الغيمة على كل تساؤلاتي الصاخبة التي كان عقلي يلح لمعرفتها ذلك الوقت ولَم أجد لها تفسير.

مقالات ذات علاقة

الايام الخوالى

المشرف العام

مقبـض البــاب

رحاب شنيب

فـلســفة

إبراهيم حميدان

اترك تعليق