( قد أثبتت الأيام أن كثيرا من الآراء المطموسة ومن الكلمات المضطهدة كانت تعبرعن الحقيقة .. وأن كثيرا ًمن الأحرار أصحاب الأفكار قد اتهموا بالزندقة أحيانا ً.. وأحرق بعضهم أحيانا ً أخرى ولكن أفكارهم لم تمت.. ) أبوبكر الهوني
حين كان الكاتب أبوبكرالهوني يجوب شوارع العواصم والمدن كان في ذات الوقت يحمل في قلبه مدينته بنغازي بشوارعها المتربة وأناسها الطيبين، وخلال زيارته لتشيكوسلوفاكيا.. سأله أحد التشيكيين: أنت زرت حتى الآن بلدانا أوروبية كثيرة وقارنت بينها.. ما أحسن بلد زرته؟ وفيما كان أبوبكر الهوني يبحث في ذاكرته عن إجابة للسؤال.. بادره التشيكي بقوله مجيبا: “أعتقد أنه ليس للإنسان بلد أحسن من بلده”.. وفي هذا المعنى يقول أبوبكر الهوني في إحدى فقرات كتابه (الهروب إلى العالم الأول):
“لاشيء أحسن من مدينتي بنغازي.. بكل ما فيها.. بشوارعها المغبرة.. بقلة الخدمات فيها.. بندرة المقاهي وانعدام الملاهي.. إلا أنها تملك الإنسان الطيب.. فالناس الطيبون في مدينتي.. أما الخبثاء فنفايات على السطوح.. لايمثلون أعماق الشعب.. بنغازي الحنونة.. ذات القلب الكبير.. والتي لاتحمل حقدا ً ولاتعصبا ً.. المدينة التي يعيش في جوفها كل الأجناس والعائلات مهما اختلفت مواقعها.. أوأمكنتها من ليبيا الأم.. في ود وحب لاتمزقها أية محاولة للفرقة. بنغازي كانت في تصوري طيلة الرحلة.. وما أراه في أي مكان أتمناه فيها.. وما أشاهده من تقدم أتمناه يصل إليها بأسرع مايمكن.. وما الألم الذي يحس به المرء خارج وطنه إلا رؤية العالم يتقدم كل ثانية وبلده (يعكز) في ممرات التخلف الضيقة“…
وبقدر ما أحب الهوني مدينته وتمنى أن يراها تسير في ركب التقدم والحضارة.. أحب الكتابة واخلص لها.. واحترم شرف الكلمة.. خاض تجربة الكتابة الصحفية كهاو ٍ.. وكذلك كتب القصة القصيرة.. وكان في ذات الوقت يمارس مهنة التعليم بعد أن تخرج من معهد المعلمين في بنغازي عام 1958.. وكانت الكتابة بالنسبة له موقفا ومسؤلية.. وقد قال الكاتب والباحث سالم الكبتي عن الأستاذ أبوبكر الهوني في مقدمة كتاب (كلمة وكاتب):
”والكاتب واحد من أصحاب الحرف الشريف.. والكلمة النظيفة.. الذين يعتزبهم القاريء الواعي.. القاريء الذي فتح عينيه على كتاباتهم وعلى معاناتهم (من أجل شيء).. وهو أيضا ً من الذين لم يتاجروا بذلك الحرف.. وتلك الكلمة.. ولم يبتغ أن يرتقي بهما سلما ً أويحقق مغنما ً بواسطتهما يزول مع الريح“.
ولد الكاتب أبوبكر عمر الهوني في مدينة اجدابيا عام1937.. وفي نفس العام انتقلت أسرته إلى مدينة بنغازي.. حيث نشأ وترعرع فيها. التحق للدراسة الإبتدائية بمدرسة (الأمير) التي كان مديرها في ذلك الوقت الأستاذ الشريف الماقني بومدين.. وكان من المدرسين الذين درس الهوني على يديهم كل من الأستاذ الصادق بالة والأستاذ محمد المرتضي.. ومنذ أيام دراسته في المرحلة الإبتدائية بدأت تظهر بوادر موهبته في الكتابة الصحفية.. فكان يمارس النشاط المدرسي مع زملائه بإعداد المواضيع للصحف الحائطية…
التحق الهوني بمعهد معلمين بنغازي ودرس به ليتخرج منه عام 1958.. وقد شهد معهد معلمين بنغازي في تلك السنوات العديد من النشاطات المكثفة التي كان يقوم بها الطلاب بالتعاون مع مدرسيهم حيث انخرطوا في جماعات (جماعة اللغة الإنجليزية – جماعة الرسم – جماعة اللغة العربية…) وكان لهذه الجماعات دور هام جدا ً في تنمية وصقل المواهب لطلبة المعهد الذين شكلوا فيما بعد جيلا ًواعيا ًوملتزما ً قام بواجبه وأدى الأمانة التي حملها على عاتقه…
كان أبوبكر الهوني قد انخرط مع زملائه في جماعة اللغة الإنجليزية.. كما انضم إلى أسرة تحرير مجلة المعلم التي كان يصدرها معهد المعلمين.. والتحق أيضا بالفرقة الكشفية الثانية التي تكونت من طلبة المعهد بقيادة الكشاف عبدالحميد عمران بن سليم. وبدأ الهوني ممارسة الكتابة والنشر في صحيفة المعلم والتي شكلت بالنسبة له القاعدة الأولى لإنطلاقته في الكتابة الصحفية…
وفي عام 1958 تعين أبوبكر الهوني مدرسا ً.. حيث مارس مهنة التدريس في كل من مدرسة (الأمير) الإبتدائية.. ومدرسة (النهضة) الإبتدائية حتى تقاعد إختياريا ً في عام 1972.. وقد كان من ضمن المتطوعين للتدريس في مدرسة العمال المسائية أيضا…
انطلق الأستاذ أبوبكرالهوني في مسيرته الصحفية حيث مارس كتابة المقالة عبرصحيفة (العمل) في زاويته المعنونة (مع الشعب ومشاكله اليومية) وذلك في الفترة بين عامي 65-71.. كما كتب عديد المقالات في صحيفة (الحقيقة) في زاوية (كلمة وكاتب).. وزاوية (اليوميات)…
كتب الهوني عن النكسة التي هزت كيان المواطن العربي وجعلته يشعر بالإحباط والمرارة.. وعبرعن مشاكل مجتمعه.. وبقدرما يحمل في داخله من حب للوطن.. كتب الهوني عن ضرورة العمل الوطني.. والإخلاص في الأداء من أجل الوطن.. وفي ذلك يقول: ”صحيح أن العمل الوطني كإلقاء الحجارة في الماء يحدث دوائر على سطحه.. لكنها سرعان ما تتلاشى لأن هذا العمل في بلادنا يحدثه أفراد.. ولم يتحول بعد إلى عمل جماعي يبرز دوائر الماء باستمرار“…
كما أطلق دعوته عبرالكتابة لضرورة تحرير العقل العربي أولا ً.. وذلك قبل تحرير الأرض.. وعن إطلاق حرية التعبير حيث يقول في إحدى مقالاته: ”وقد أثبتت الأيام أن كثيرا من الآراء المطموسة ومن الكلمات المضطهدة كانت تعبرعن الحقيقة.. وأن كثيرا ًمن الأحرار أصحاب الأفكار قد اتهموا بالزندقة أحيانا ً.. وأحرق بعضهم أحيانا ً أخرى ولكن أفكارهم لم تمت“.. كما كتب الهوني عن قضية فلسطين وعن الشرفاء والثوار وأصحاب الكلمة الحرة…
خاض الهوني تجربة الكتابة القصصية.. وفي عام 1968 صدرت مجموعته القصصية (5 يونيو حرب أولاحرب).. عن منشورات دارمكتبة الأندلس (البركة ـ بنغازي).. اتخذ مدلول عنوان هذه المجموعة معنى السؤال المعلق في وجدان المواطن العربي حول مستقبل الأمة العريية بعد النكسة والأمل المنعقد حول تحريرالأرض من المحتل.. وهو عنوان لإحدى قصص المجموعة بطلها جندي عائد من المعركة مع أخيه الأصغر ومجموعة من الجنود في عربة القطارحيث الصمت يخيم على المجموعة.. ذلك الصمت الذي يكتسب دلالته من معاناة الجنود الداخلية وصراعهم مع مرارة الشعوربالهزيمة.. صمت خارجي وصخب داخلي يعتلج في نفوسهم.. وفي أثناء العودة يسأل الأخ الأصغر أخاه الأكبر وكأنه يبحث عن إجابة أخرى غيرالتي يعرفها:
ــ هل خسرنا يا أخي..؟ قالها بزفرة ألم..
ــ لا.. لم تزل أمامنا فرص عديدة.. المستقبل لنا
ــ لا.. لا أريد كذبا ً.. لاتجاملني
وفي تصوير آخر لمشهد العودة يقول بطل القصة وهو يبريء نفسه من مسؤلية الهزيمة: ”ومن بين أصوات الباعة كانت الوالدة تستقبلنا أنا وأخي.. ودخل معنا في البيت كثير من الجيران يسألون.. كنت أقول لهم: لسنا إلاجنودا ننفذ الأوامر.. لانعلم عن إحتمالات المستقبل.. إن الذين يملكون مفتاح الإجابة هم الجالسون في غرف العمليات العسكرية“…
احتوت قصص المجموعة على مضامين اجتماعية وتمحور السرد فيها حول شخصيات مأزومة تعاني القلق النفسي والإجتماعي وهي السمة الغالبة على قصص كتاب جيل الستينيات من القرن الماضي.. وقد تناول الدكتورأحمد محمد عطية هذه المجموعة بالدراسة في كتابه (في الأدب الليبي الحديث).. وأفرد لها أحد فصول الكتاب بعنوان (5 يونيو حرب أولاحرب بين الرؤية السياسية والخلق الفني).. وقال عن كاتبها: ”أبوبكر الهوني كاتب ليبي سياسي بالدرجة الأولى.. تدلنا على هذا كتبه ومقالاته وانطباعاته وتعليقاته.. وعندما يلجأ الكاتب السياسي إلى الفن القصصي للتعبيرعن فكره ومشاعره فلابد أن يتم ذلك من خلال رؤية السياسي وأيديولوجيته.. ولعل هذا واضح جدا من اختياره عنوانا ً سياسيا ً لمجموعته القصصية( 5يونيو حرب أولاحرب“…
في عام 1970 صدر للأستاذ أبوبكر الهوني كتابه الهروب إلى العالم الأول.. وذلك ضمن السلسلة الثقافية التي كانت تصدرها مجلة جيل ورسالة الصادرة عن مكتب القيادة العامة لكشاف ليبيا والتي كان يشرف على تحريرها الكشاف عبدالقادرغوقة.. وقد أسهمت مجلة جيل ورسالة في إصدارالعديد من المطبوعات لكتاب ومبدعين ليبيين نذكر منهم الصادق النيهوم ومحمد الشلطامي وفتحي العريبي وفرج المذبل وغيرهم…
في كتابه الهروب إلى العالم الأول يصف الهوني رحلته التي قام بها في القطار انطلاقا ً من الأراضي الأسبانية ثم فرنسا ثم ألمانيا فبولندا وتشيكوسلوفاكيا واتتهاء بالأراضي الإيطالية.. والهروب إلى العالم الأول عند الكاتب هو هروب من عالم متخلف إلى عالم آخر تسود فيه الحضارة العلمية.. إنه دعوة لنبذ مظاهر الجهل والتخلف من مجتمعاتنا العربية والإلتحاق بركب الحضارة الحديثة.. حيث يقول الهوني في إحدى فقرات الكتاب: ”واتجه شمالا ًلأكتشف أن الإنسان كلما اتجه شمالا ً تفتحت أمامه أبواب السعادة“…
ورغم رحلته الطويلة عبرالمدن الأوروبية وانبهاره بمظاهرالحضارة فيها إلا أن الكاتب أبوبكر الهوني لم يكن همه بالدرجة الأولى رؤية المباني.. بل رؤية الإنسان هناك وسبر غور أعماقه، ومن محطته الأخيرة إيطاليا يغيرالكاتب الهوني وجهته جنوبا ًنحو العالم الثالث محملا ًبذكريات ومواقف ومحطات ومدن وموانيء وفنادق.. ومسكونا ًبحسرة وألم كبيرين.. وفي قلبه أمنيات وأحلام بعيدة.