في مرحلة الطفولة والصبا أي منتصف الستينيات، كنا نقطن حي الحطية بأزقته الضيقة الملتوية، ونوافذه الواطية، وأكواخه المشرعة الأبواب، وأهله البسطاء الفقراء، والذين يتميزون بالتآلف والطيبة والعفوية، عرفناه نحن رفاقه باسم عبدالسلام عمر سوف، هو من مواليد سنة 1956م مدينة طبرق.
بعد وفاة والده في حادث سير أليم، عاش عبدالسلام وتربى في كنف جده إبراهيم بعيو، وجدته مبروكة الشلوية في كوخ بنفس الحي، بابه الخشبي يطل على الشارع الرئيسي الذي يشق منتصف الحي.
كان عبدالسلام عمر سوف طويل القامة أنيق الهندام، يمتلك جسماً رياضياً، فهو لاعب كرة طائرة من الطراز الأول وكذلك لاعب لكرة السلة، درست معه في الصف الأول، بمدرسة الضاحية الإعدادية، وفي فصل دراسي واحد، وكان معنا تلاميذ الحي بالإضافة إلي تلاميذ آخرين من الأحياء الأخرى.
كنت أنا وعبدالسلام عمر في صبانا نادراً ما نفترق، نقضي جل أوقات الصيف، على شاطئ كورنيش طبرق، برماله الناعمة ومياهه الزرقاء، قبل أن تلوثه مياه الصرف الصحي، نسبح ونلتقط نحن الأسماك الصغيرة، التي عادة ما يتركها صائدو الأسماك بالجلاطينة، بعد جمعهم للأسماك الكبيرة.
كما كنا نجمع النحاس والألمنيوم ونبيعه للمرغني في وسط المدينة، مقابل قروش ندخل بها سينما حلمي، ونشتري سندوتشات التن بالهريسة من عمي علي العمامي، وبما تبقى لدينا من نقود كنا نشتري رواية من مكتبة علي ليدي، اقرأها أنا وعبدالسلام، أما صديقنا الثالث محمود المقرحي فكان لا يحبذ من القراءة إلا منهج المقرر التعليمي فقط، وسهراتنا عادة ما تكون في المساء أمام محلات الحطيّة.
عبدالسلام سباح وغواص ماهر عرفته في رحلاتنا الصيفية لشاطئ العقيلة الشرقية، وشاطئ بحر الدالية، وشاطئ وادي بوحفحوف بكمبوت، كان ينزل البحر ببذلة الغطس وبندقية الصيد، وبعد ساعة يخرج لنا بأسماك البو شوكة والفروج وغيرها. كنا في أوقات فراغنا والعطلة الصيفية نتبادل قصص وروايات محمد عبدالحليم عبدالله، ومصطفى محمود، ونجيب محفوظ، وقصص يوسف إدريس وغيرهم. كما قرأنا في الأدب الليبي قصص عبدالله القويري وأحمد إبراهيم الفقيه وبشير الهاشمي وغيرهم.
وفي الشعر كنا نقرأ للشعراء نزار قباني وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وصلاح جاهين وأمل دنقل وغيرهم، وفي الشعر الليبي قرأنا دواوين أحمد رفيق المهدوي وأحمد الشارف وإبراهيم الأسطى عمر وغيرهم.
كان يطّلع على ما أكتبه من بدايات قصصية في كراسة خاصة، وعندما يرجعها لي أجد تعليقاته الطريفة عليها، بخطه البديع ورسوماته الجميلة المعبرة. فقد كان عبدالسلام خطاطاً وفناناً يهوى الرسم، ويحصل دائماً على أعلى درجات فيه في المدرسة، وعندما كبر أقام العديد من المعارض على مستوى مدينة طبرق.
دخلنا معهد المعلمين، تخرجنا منه وعملنا معا في حقل التعليم، في مدارس القرى بطبرق ثم مدارس المدينة، لم نفترق إلا عندما انتقل هو إلي مدينة البيضاء، لمواصلة دراسته الجامعية في كلية التربية جامعة عمر المختار (كان يرى الحياة العادية رتيبة كئيبة، لم يفكر يوماً في الركون إلي الدعة والاستقرار، دائماً في صندوق سيارته البيجو القديمة، خيمة وبذلة الغوص وبندقية الصيد البحري وعالة الشاي، لم يكن في انسجام مع المجتمع، ولذا تجده في حركة دائبة كمن يبحث عن شيء ما، أو يخشى شيئاً ما تميز بالجرأة والجسارة، وكثرت اصطداماته بمن حوله من الأصدقاء، حتى نجد البعض يظنه جلفاً مشاكساً، بينما هو في الواقع طيب القلب نقي السريرة).
تزوج في حياته عدة مرات، لكنه لم يوفق في زيجاته الأولى، بالرغم من انه رزق من زوجته الأولى والثانية بالعديد من الأبناء والبنات، ثم تزوج من امرأة ثالثة.
كان يعاني في حياته الأسرية والزوجية، معاناة كبيرة من المتاعب والمشاكل، لكنه كان يعشق الرحلات البحرية والصيد البحري والغوص في أعماق البحر عن ذلك يقول عن نفسه في إحدى قصصه: «حمل الحقيبة بيد والفراش باليد الأخرى، كانت خلفه الشرر بعينيها، لم تشف غليلها بالرغم من صولاتها وجولاتها:
– زارد ديما زارد.. زردة بلا ردة.
– طلقني لا سيارة ولا أكل مثل بقية الخلق ولازلوف ولا كوافيره عايش على المعاش والسلف عقاب مدرس انت ذكر امغير بالبطاقة».
وفي فقرة أخرى من نفس القصة: «أفسدت حياته آخر مشاجرة ابنه يصيح:
– يسمعوا فينا الجيران.
الصغيرة تتثاءب ودموعها منهمرة وعندما أتى بوالد زوجته شرح له حاله قبل الوصول أجابه الأب:
– عيب منها توا انوريها.
عند الباب استقبلتهم مستشيطة:
– جبت باتي ايش يريد ايدير لك.
استغرب طأطأة أبيها وتبخر ما قاله:
– رجلي علي رجلك بكرة للمحكمة.
– أهدي يابنيتي أهدي كل مشكلة ولها حل.
– اسكت ياباتي اسكت خليني انأدبه».
قصة الإعصار وقوس قزح (ص 15 – 16).
بعد العمل في حقل التدريس، عمل مفتشاً بتعليم طبرق ثم موظفاً بقسم الامتحانات، ثم انتقل إلى قطاع الصحة، وعمل مفتشاً صحياً بمركز البطنان الطبي، فوجئت به في فترة متأخرة يكتب المقالة والقصة القصيرة، بعد أن تجاوز العقد الخامس من عمره، امتهن الكتابة بروح العفوية والصدق، وفي نفس الوقت كان يظن أن الكتابة تدر دخلاً على الكاتب، قدم لي عدداً من قصصه، نشرت بعضها في صحيفة البطنان، والبعض الآخر في موقع الصياد الثقافي الالكتروني، أهداني كتاباً صغيراً بعنوان «رياضة الغوص» طبعه على حسابه الشخصي، هو حصيلة تجربة شخصية منذ بداية مسيرته مع عالم البحار، عن الغوص ومعداته المتطورة، وآلية وشروط الغوص وأشهر الغواصين في العالم.
كما قام بطبع مجموعته القصصية الأولى بعنوان «طائر الغاق»، على نفقته الخاصة أهداني نسخة منها كتبت عنها قراءة مستفيضة في كتابي: «القصة القصيرة في طبرق» الذي صدر سنة 2010 م.
تتضمن المجموعة القصصية «طائر الغاق» أربع وعشرين قصة قصيرة، أحداثها من الواقع الملموس، يحكي فيها عن تجارب عايشها سواء من خلال رحلاته البحرية مع بعض أصدقائه، أو شخصيات التصق بها في حي الحطية، في قصصه يذكر حتى أسماء شخوص قصصه، بأسمائها الحقيقية المعروفة بها مثل: العجيلي، وصبره، ومازق الخرطوش، وبوزيد، وبو طاهر، وبو ازريقه، وحمد تيتل، ومفتاح النعيري، وفرج بومقدم ، وغيرهم.
يقول عن الكتابة القصصية: «كتابة القصة فن ممتع ومرهق، كمن يزرع خميلة وارفة مثمرة، يستظل بها القاريء من قيظ النهار، يستشف الحكمة الفكرة الطيبة فقد تغير مجرى الأمور».
كما يذكر في قصصه والتي معظمها عن البحر وصيد الأسماك أنواع متعددة من أسماك الفروج وبوشوكة والرزام والشلبة والشولة وغيرها، و يستخدم الحوار في قصصه الواقعية باللهجة العامية دائماً.
«تذكر الصراخ عند باب البيت لماذا تأتي بالفقيه تحسبني مجنونة، انت المجنون اللي يحكوا الناس عنه ديما كارس مع الكتب».
القاص عبدالسلام عمر كان يخيل إليه أنه عندما ينشر كتابه القصصي الأول، سوف يدر عليه ربحاً وفيراً، وينفد من المكتبات بعد أيام، لكن ثبت له العكس فالأدب في ليبيا تجارة كاسدة.. ما لبث أن اكتوى القاص بنار الحقيقة الموجعة، وعرف أن كتب الحلويات والمطبخ وليلة الزفاف والكتب الدينية المثيرة للجدل، أكثر رواجاً من الكتب الأدبية في الشعر والرواية والقصة القصيرة.
القاص عبدالسلام عمر شخصية مشاكسة لم تهدأ حياته وتستقر، إلا بعد انتقاله إلى مدينة البيضاء، وزواجه للمرة الثالثة من هناك وابتعاده عن مدينة طبرق.
نشر العديد من قصصه في صحف «البطنان» و«أخبار طبرق» و«الوطن الليبية» و«قورينا» و«العرب» اللندنية، والمواقع الإلكترونية مثل منتديات «أزاهير» الأدبية، وموقع «ملتقى أدباء ومشاهير العرب» الذي نشر فيه قصصه الآتية: «القفص الذهبي» و«صديقي صبره» و«البحر والقطة» و«بوطاهر» و«ليلة احتضار الوزير» و«بوزيد» و«الضواري» و«بوازريقه» وغيرها.
لكنه لم يترك هوايته الغوص وصيد الأسماك، حتى كانت رحلته الأخيرة مع صديقه صبره على شط بوالفرايس، حيث نصب خيمته التي لم يكن يدري أنه لن يعيد طيّها مرة أخرى، وما كان له أن يعلم أن تلك الرحلة ستكون هي رحلته الأخيرة مع الصيد، حيث اصطاد العديد من أسماك البوشوكة والفراريج، وسمكة الأرنب السامة التي كان يعرفها جيداً، وسبق له أن كتب عنها، ولكن هذه المرة زادت جسارته وأكل جزءاً كبيراً من كبدها بعد شوائها، وترك الأسماك المشوية الأخرى، وبعد العشاء وعلى شط بوالفرايس بالقرب من منطقة التميمي، بينما كان يتسامر مع صديقه صبره الذي شاركه العشاء الأخير، ولم يأكل من سمكة الأرنب السامة إلا قطعة صغيرة جداً، لأنه أكل من الأسماك المشوية الأخرى، شعر بالخدر يسري في جسمه وأطرافه، هرع به صديقه صبره في سيارته إلى مركز البطنان الطبي، لكنه ما أن وصله حتى كان القاص عبدالسلام عمر سوف قد أسلم الروح وفارق الحياة يوم الأربعاء 12 نوفمبر 2014م.
هكذا رحل عنا القاص عبدالسلام عمر سوف، وهو في الثامنة والخمسين من عمره، وترك لنا رواية مخطوطة وقصصاً رائعة على موقع منتدى أزاهير الأدبية عن حي الحطية والبحر وصيد الأسماك، رحمه الله.