يونس شعبان الفنادي(*)
الكتابة عن القامات السامقات المبدعة في كل المجالات الأدبية والعلمية وغيرها تعد من المغامرات الصعبة والتحديات المنطوية على الكثير من المخاطرة. ومن بين هذه المغامرات الممتعة ما أثرى به الأستاذ عمار محمد جحيدر المكتبة الليبية والعربية بإصداره التوثيقي المعنون (التليسي مؤرخاً) الذي ألفه بمهنية الباحث المثابر المدقق الذي يصطبر ويكد من أجل الوصول إلى أقصى درجات الكمال في عمله، مع يقينه التام بأن إدراك الكمال هو من المحال، لذا فهو يعي تماماً أهمية العمل الذي ينجزه وطبيعة الضنك والمشقة التي تواجهه في سبيل ذاك الإنجاز.
كثيرٌ من الأدباء والكتاب والبحاث والدارسين كتبوا عن الراحل خليفة التليسي وتناولوا صنوف إبداعاته بالعديد من القراءات النقدية والدراسة والإشادة والثناء، ولكن قليل منهم من تميز في ذلك بتفرده واتباعه منهجية معينة في العمل البحثي الإبداعي، ولذلك فإن كتاب (التليسي مؤرخاً) الصادر للأستاذ عمار جحيدر عن دار الفرجاني للنشر والتوزيع يكتسي أهمية بالغة وكبيرة تتمثل في جانبين أولهما قدرات مؤلفه وتقنياته ومهاراته البحثية المتأسسة على سعة الاطلاع، واللغة الواثقة، والمعبرة بجدارة عن فكره ورسالته من هذا الإصدار، باعتماده أسلوباً عددياً وإحصائياً تم من خلاله حصر إنتاج الأديب الراحل خليفة التليسي وتتبعه زمنياً وتصنيفه حسب جنس الكتابة، ومن ثم إعداد الجداول والرسومات البيانية وتحليلها موضوعياً لاستخلاص النتائج التي قدمها لنا المؤلف الكريم وصححت لنا الكثير من المعلومات عن الأديب الراحل خليفة التليسي، لعل أبرزها هو تفوق عمله في مجال الترجمة عن أي جنس إبداعي آخر. أما الجانب الثاني فهو يكمن في طبيعة الشخصية الأدبية والفكرية نفسها التي يتناولها المؤلف بالتتبع والدراسة والبحث، وتاريخها المشرف في انتاجها الغزير المتنوع في العديد من الأجناس الابداعية التي ارتقت بها سلم المجد ونالت التقدير والتبجيل متصاعدة من أولى درجاته حتى تسامقت وتعالت بسقف جهدها ومثابرتها لتطاول عنان السماء بكل اقتدار وعزة وشموخ.
وقد تتبع الأستاذ عمار جحيدر في مؤلفه (التليسي مؤرخاً) إصدارات الأديب الراحل خليفة التليسي منذ عقد الخمسينيات إلى عشرية التسعينيات وحتى بداية القرن الواحد والعشرين، واصفاً هذه العقود الزمنية على التوالي بالبداية، ثم البروز، ثم الزخم والنضج، فالعودة إلى التراث الأدبي وترجمة الشعر الشرقي وقواميس اللغة الايطالية، تتلوها مباشرة العودة إلى الاهتمام بتأصيل سكان ليبيا وترجمة الشعر الغربي، ليصل أخيراً إلى عقد الشيخوخة الذي اعتبره عودة إلى التراث اللغوي مجدداً والانفتاح على تاريخ وحضارة حوض البحر الأبيض المتوسط.
وأوضح المؤلف بأن هذه العقود الزمنية مجتمعة أنتجت خمسة وثلاثين مطبوعاً متنوعاً زاخراً بعطاء الأديب الراحل خليفة التليسي وإبداعاته المتميزة، ومن خلال تتبع هذه الأعمال وجهود الأديب الراحل في إنجازها يكشف لنا المؤلف أن أعمال ومنشورات الدكتور خليفة التليسي رحمه الله في مجال الترجمة تمثل ستة وأربعين بالمئة (46%) من عطائه المتنوع وهي تقارب نصف جهده وأعماله كلها، وقد برزت من خلال إصداره ستة عشرة كتاباً مترجماً، بينما بلغ عدد مؤلفات الأديب الراحل خليفة التليسي أربعة عشرة كتاباً مثلت (40%) أربعين بالمئة من إنتاجه الغزير المتنوع كافةً.
جاء كتاب (التليسي مؤرخاً) للأستاذ عمار جحيدر في خمسة فصول تسلسلت كالتالي: (التليسي بين نماذج بارزة من أجيال المؤرخين الليبيين في القرن العشرين) و(التليسي مثقفاً، الاعمال الكاملة في لوحة شاملة) و(مدونة التليسي التاريخية) و(عروض أولية عامة) وأخيراً (التليسي مؤرخا ثقافياً “التداخل الجدلي بين النقد الأدبي والتاريخ الثقافي”) تضمنت العديد من الوثائق والصور الضوئية لبعض مقالات وغلافات الكتب، وبعض لقطات الصور الفوتوغرافية الشخصية للأديب الراحل الدكتور خليفة التليسي وكذلك الكتابات الصحفية التي تناولت أعماله المختلفة، إضافة إلى ملحق مصور يشمل (لوحات مختارة من كناش المؤرخ).
وكل هذا الثراء المعرفي النثري والصوري والفوتوغرافي والأسلوب الموضوعي في رصد وتتبع واستقراء رحلة الأديب الراحل خليفة التليسي قد وفره كتاب (التليسي مؤرخاً) حين جعله مؤلفه القدير إصداراً يجمع بين الدراسة البحثية المتتبعة لأعمال الأديب الراحل، إضافة إلى تعزيزه بعرض الصورة والوثيقة التاريخية التي يمكن الرجوع إليها والاعتماد عليها عند التأريخ لحياته ودراستها بأكثر عمق وتفصيل، فنال الكتاب الصادر بكل ذلك الثراء والتنوع مرتبة متقدمة بين الاصدارات العديدة الرصينة والمتميزة التي تناولت أعمال الأديب الدكتور خليفة التليسي رحمه الله بدقة تفصيلية وغوص وعناية تكتسي الكثير من الأهمية والتقدير.
ومن بين ما كشف عنه المؤلف الأستاذ عمار جحيدر في مؤلفه هو علاقة الأديب الراحل الدكتور خليفة التليسي الوطيدة بمركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية التي نشأت منذ تأسيس المركز وظلت مزدهرة حتى أواخر سنة 1978 حين حدثت قطيعة وجفوة بين الأديب الراحل ومؤسسة المركز وهيئته الإدارية التي على رأسها الدكتور محمد الجراري واستمرت بضع سنوات حيث (… غضب غضباً شديداً وقاطع المركز مقاطعة صارمة بضع سنوات، إلى أن تمكن بعض أهل الخير وذوي الفضل من إقناعه ……، فعاد حبل الود بينه وبين المؤسسة والدكتور الجراري متيناً من جديدٍ…). ولم يكتفِ المؤلف بسرد تلك الواقعة والمرور على ذكرها مرور الكرام ضمن سياقات الماضي فحسب، بل نجد أن مشاعره الجياشة النبيلة المتأصلة بالوفاء لأساتذته الأجلاء، والصدق والأمانة لعمله البحثي، وروحه الإنسانية السمحاء الغيورة والمتأسسة على محبته لاستمرارية علائق الخير وأواصر الوئام، يعود الأستاذ المؤلف عمار جحيدر للبحث في تلك الحادثة بعد عقود من الزمن، ويوجه أسئلته الخطية المكتوبة حولها مباشرة للدكتور محمد الجراري في أواخر سنة 2010 أي بعد حوالي اثنين وثلاثين سنة لاستيضاح خلفياتها ونشر الإجابات الحرفية التي تفصح عن سوء الفهم بشأنها، غايته من كل ذلك تبيان الحقيقة وما خفي منها.
سيظل كتاب (التليسي مؤرخاً) للأستاذ عمار محمد جحيدر واحداً من أهم المراجع التنويرية التي تقدم متابعة زمنية وتحليلاً إحصائياً دقيقاً لجهود الدكتور خليفة التليسي رحمه الله في جميع عطاءاته الأدبية بكل أجناسها. ولو قدر لمؤلفه تضمين هذا الكتاب ما تم نشره في ملف عدد مجلة (الفصول الأربعة) المعنون (خليفة محمد التليسي .. الجبل ينشر ظلاله) الصادر سنة 1992 (66-67-68 السنة الثانية عشرة 1402 و.ر التمور/ الحرث/ الكانون/ أكتوبر/ نوفمبر/ ديسمبر/1992) خاصة الحوار المهم الذي أجراه الأديب الأستاذ يوسف الشريف مع الدكتور خليفة التليسي رحمه الله، لجاز لنا أن نطلق على كتاب (التليسي مؤرخاً) شبه سيرة ذاتية متكاملة كتبت بلغة الأرقام وتعززت بالصور والوثائق التاريخية… في غياب السيرة الذاتية النثرية لأديبنا الراحل خليفة التليسي رحمه الله، فكل التحايا والإكبار والتقدير والإجلال للأستاذ عمار جحيدر على هذه الإضافة الثمينة للمكتبة العربية التي ستكسب بها الكثير من المعلومات الغزيرة والبيانات الوفيرة وتقدمها لكل باحث ومهتم سواء بمسيرة الأديب الراحل خليفة التليسي الخاصة أو المشهد الأدبي والفكري والإبداعي عامة في بلادنا الحبيبة.