ميديل إيست أونلاين :: د. نعيمة عبدالجواد
أصبحت الرقمنة Digitization القاسم المشترك بين جميع أنشطتنا اليومية، فلقد تغلغلت في جميع المناحي العلمية والعملية؛ ويوماً تلو الآخر يتزايد اعتماد الإنسان على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في كل من مجالات المعرفة وأيضا الاتصالات على حد سواء.
فبداية من تسعينيات القرن الماضى غزت – وبقوة – تكنولوجيا المعلومات والاتصالات جميع مجالات المعرفة والأنشطة الحياتية تقريبا، بل وأصبحت تلك التكنولوجيات ركيزة أصيلة من ركائز الإنتاج، وكذلك كيانا قائماً بذاته جدير بالدراسة والتطوير.
ويميل المتخصصون إلى تصنيف المجالات التي غزتها الرقمنة Digitization تحت عنوان أكثر شمولية، ألا وهو: “الإنسانيات الرقمية” Digital Humanities والتي بدورها تضم في طياتها مفاهيم أخرى تم استحداثها مؤخراُ، مثل: المكتبات الرقميةDigital Libraries ، والتصور Visualization، وتعدين النصوص Text mining، ومنظومات المعلومات الجغرافية Geographic Information Systems، ووسائل الإعلام المتعددة multimedia، وشبكات التواصل الاجتماعي social networks ، ومنظومة التعليم باستخدام التقنيات teaching with technology، والمواقع المفتوحة Open Access، والثقافة الرقمية Digital Culture.
وعند الإمعان في المفهوم الأوسع والأشمل لــ ” الإنسانيات الرقمية ” Digital Humanities، يلاحظ أن الباحثة ديان زوريش Diane Zorich قد فسرت في كتابها “استبانة عن مراكز الإنسانيات الرقمية بالولايات المتحدة” أن الغرض الأسي من الإنسانيات الرقمية – أي تلك التي تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات – هو تعزيز عمليات البحث والتعليم، وكذلك استحداث منتجات وعمليات تعمل على تحديث ما لدينا من معارف.
ومن ناحية أخرى يفضل البعض أن يفسر مفهوم العلوم الانسانية بطريقة أكثر عملية وتخصصًا حيث يتم التوكيد على أنها قائمة على محتوى رقمي، وتستحدث أدوات تراكم المعلومات، والتأليف، والتحرير، والتحليل؛ ومن ثم نجد أن مفهوم الإنسانيات الرقمية يرتبط في كثير من الأحيان بالمؤسسة الإنسانية التي تعمل على استخدام الوسائط والنظريات الحسابية في مجالي بحوث وتدريس الإنسانيات، مثل ترميز النص Text Encoding ، وعمليات الحوسبة اللغوية Linguistic Computing الأخرى.
ومن ثم فإن مفهوم الحوسبة الإنسانية Human computing ما هو إلا تطبيق الحوسبة على البحث والتدريس في فروع العلوم الإنسانية، لكن تطور فيما بعد ذلك المفهوم واتسعت آفاقه فأطلق عليه اسم “الإنسانيات الرقمية Digital Humanities”، وتم ذلك من خلال وضع الممارسات وأجندات الأبحاث ضمن التغييرات المؤسسية وتطور مجالات العلوم وكذلك ضمن التغييرات الطارئة على المجتمع؛ وعلى هذا برزت وجهات نظر جديدة قائمة على النصوص والأدوات والمناهج التي تعزز نموذجًا أشمل وأعم من الإنسانيات الرقمية التي تضم محتوى غير نصي رقمي، وكذلك محتويات وليدة الرقمنة، ويتم اعتبارها كائنا جديرا بالدراسة.
وتشتمل العلوم الإنسانية الرقمية على مجموعة من الممارسات التحليلية والنصية والتأويلية والنقدية والجمالية؛ ومن ثم صار من الممكن تطبيقها لأغراض بحثية وتطبيقية على الأعمال الأدبية وتصميم واستحداث أعمال فنية رقمية باستخدام التحليل الاحصائي بمساعدة الكمبيوتر وتطبيقات نظم المعلومات الجغرافية حال وجود كم ضخم من البيانات عن العلوم الإنسانية، ورقمنة الأعمال الفنية، وتحليل الموسيقى، وترميز النصوص، وتصنيفها، ثم نشر كل هذا في شكل رقمي، وقد كان نتيجة ذلك إعادة صياغة مناحي البحث وتدريس العلوم الإنسانية في أطر تكنولوجية.
ويلاحظ أن مفهوم الإطار التكنولوجي يعدّ من الركائز الأساسية للبناء الاجتماعي للتكنولوجيا، فهو نموذج نظري تم تصميمه لدراسة السياق الاجتماعي للابتكار التكنولوجي؛ حيث إنه يعتقد أن الابتكار هو عملية معقدة أساسها استحداث ابتكارات تكنولوجية جديدة تتلاقى فيها كل من رغبات المستخدمين وقفزات التقدم التكنولوجي؛ ومن ثم لا يمكن فهم كيفية نشر تكنولوجيا ما، دون فهم وضعها في سياق اجتماعي. وفي هذا السياق، فإن تصير الأطر التكنولوجية إدراكا مشتركا ووعيا ناشئا داخل جماعة أو مجتمع ما عند اعتماد إحدى التكنولوجيات. ومن ثم تتطور الوسائط التكنولوجية وفقا لمتطلبات مستخدمي التكنولوجية وكذلك من خلال السياق الاجتماعي العام.
وبناء على ذلك انتشر في ربوع العالم استخدام تطبيقات تكنولوجية تؤمن الاتصال السريع بين الأفراد حتى ولو كانوا غير مهتمين بالأطر التكنولوجية، مثل: البريد الالكتروني، والقوائم البريدية، والمدونات، وصفحات الويكيبيديا، والفيسبوك وجميع تطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث، وجوجل. وبالنظر إلى كل ما سبق من وسائل يلاحظ أن جميعها أصبحت وسائل الإعلام الرقمية الحديثة التي أضحى وجودها أجمعين شبه حتمي في جميع المجتمعات بالعالم.
وعلى هذا الأساس صارت وسائل الاعلام الرقمية إحدى أسس العلوم الإنسانية لأنها باتت وسيطا لتيسير التواصل العلمي. ومن ثم ظهرت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كأداة مساعدة للتواصل العلمي لدعم مجموعة من العمليات الرقمية كالتأليف والتحليل والتحرير والتصور من أجل إنشاء المحتوى العلمي وتمثيله وتنظيمه وتحليله وأخيرا نشره عبر وسائل الإعلام الرقمية.
وتوفر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وصولاً واسعاً ومريحًا إلى المعلومات العلمية وكذلك تعمل على تسهيل الاتصال من خلال التفاعلات المتزامنة وغير المتزامنة عبر الإنترنت.
أضف إلى ذلك، يجب الإقرار بأن وسائل الإعلام الرقمية قد صارت موئلا للتعبير الفني والإبداعي وأصبح من خلالها يمكن التعبير عن المحتوى العلمي بطرق فنية.
وفي هذا الإطار ظهرت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات كوسائل للإعلام الفني. فعلى سبيل المثال: أصبح من الممكن تقديم عروض في الحلقات النقاشية والدراسية تحتوي على وسائل الإعلام الجديدة؛ فمثلا، قد يتم استخدام أدوات تحرير الأفلام والأفلام الرقمية كوسيط فني يمكن من خلاله استكشاف كيفية رؤيتنا للنبات وملاحظة كيفية نموه. وانتشر حاليا بالمنتديات والحلقات الدراسية وجود مشاريع فنية عن الموسيقى الرقمية، وكذلك الصوت الناتج رقميًا (الذي يعرف باسم الصوت الإلكتروني) وتولدت كذلك لدى الباحث القدرة على أن يقوم بتحديد نبرة الصوت وفقا للنوع والفئة العمرية، وأصبح قادرا أيضا على إضافة خصائص مميزة للصوت وطريقته في السرد.
بل وبرزت أيضا وسائل الإعلام الجديدة كمصدر للتجارب الجمالية والفكرية الجديدة. فمثلا يمكن استخدام الصوت ومقاطع الفيديو لإضافة عمق وحميمية للتاريخ الشفوي في محاضرات الأدب ومن خلالها يمكن للباحث أو الدارس الحصول على أدلة بطرق متعددة حتى يستخدمها لتحليل وفهم النصوص؛ حيث إنها تقدم تجارب جديدة وتؤثر على تصوراتنا ومشاعرنا وخبراتنا الجمالية وعمليات اكتساب المعرفة. ومن ثم فإن استخدام وسائل الإعلام المختلفة يحفز الحواس مما يؤدي إلى إثراء واستحداث أشكال جديدة للتأويل.
على النقيض فلقد أحدثت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي تسمى بوسائل الإعلام الحديثة ولعًا عالميا بالعلوم التقنية؛ تزامن معه تنامي التأثير الثقافي للإعلام الرقمي على مجالات الحياة المختلفة. فمثلا، يوجد بحوزة كل فرد هاتف نقال ذكي يتم الاعتماد عليه كليًا في إجراء اتصالات من خلال وسائط متعددة، يضاف إلى هذا التفاعل بشكل واسع ليس فقط مع شريحة عينها من الأفراد، ولكن أيضا مع المجتمع والعالم بأكمله من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، مما دفع جمهورا من الباحثين يعربون عن قلقهم إزاء الارتباط المتزايد بين العلوم التقنية واستخدام وسائل الإعلام الجديدة، وكأن سبب هذا التخوف هو تزايد هيمنة التأثير الثقافي للإعلام الرقمي على حياتنا.
وفي الوقت الحالي تجسد البيئة البحثية القائمة على شبكة الإنترنت نقطة التلاقي بين محركات البحث والكتب الرقمية وصفحات الويكيبيديا والمدونات ومنتديات التواصل عبر الإنترنت؛ مما غير مفهوم محو الأمية القديم، وبدّله بآخر حديث يؤكد أن محو الأمية يتحقق عندما ينمي الأفراد القدرة على تقييم وإدارة وتجهيز وفلترة المعلومات واستخلاص المعنى المنشود في إطار البيئة المعلوماتية الجديدة في عصرنا الحالي.
ومن ثم شدّد اتحاد الإعلام الجديد (وهو مجتمع دولي من الخبراء في مجال تكنولوجيا التعليم) عام 2005 على أن محو الأمية بوسائل الإعلام الجديدة يتحقق عند تنمية مجموعة من القدرات والمهارات تكتنز بداخلها محو الأمية البصرية والمرئية والرقمية، وتضم هذه المهارات في جوانبها القدرة على التنقل عبر نماذج متعددة من وسائل الاعلام وإعادة تكوينها وتقييمها من أجل تجميع المواد الاعلامية، ووضع المنهجيات المتنوعة المتبعة في حل المشكلات المعقدة في حيز واحد، أضف إلى هذا تقييم إمكانات وتقنيات التكنولوجيات الجديدة من منظور نقدي.
وبناء على هذا، صار الهدف من العلوم الإنسانية الرقمية هو غرس المعرفة والمهارات اللازمة لإنشاء ونقد محتوى إعلامي جديد على مستوى كل من الطلاب والباحثين.
خلاصة القول، عند التحري عن مناخ التقاء العلوم الإنسانية بوسائل الإعلام الجديدة يجب النظر إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليس فقط كأدوات تعزز الإنتاجية والتعبير الإبداعي والتواصل، ولكن بإمكان تحويلها إلى هدف جدير بالدراسة في حد ذاته، تتوجب دراسته واستقصاء تداعياته من منظورات عديدة: مادية واجتماعية وثقافية، أملا في تلافي هيمنتها بشكل سلبي على العلوم الانسانية.
____________________________________________
أستاذ الأدب الإنجليزي – جامعة القصيم – السعودية
n_gawad@hotmail.com