“فصل الخريف كاد ينقضي. لا غيوم في السماء تبشر بشتاء حافل بالأمطار. الشجر يجعجع بين الفينة و الفينة طالبا قطرة تروي عطشه. التراب الجاف يتلحف الوادي منتظرا شفقته و رحمته. حشائش الديس صبرت نفسها حتى ميلاد غيمة واحدة ..هي الآن يئست و استسلمت للذبول و الجفاف… السفح الأخضر الفسيح استحال عشبه قش محترق.
ظلال الجبال تكمشت و الزعتر و الكليل اختبأ خلف الصخور. السحالي و ‘البوبريصات’ تيبست جلودها في الشقوق. قطيع من الماعز قرونها محشورة في حجارة الوادي. بطونها منتفخة و النتانة تجذب الذباب .
أيام الشتوية تساوت مع أيام الصيف. الشمس تلذع الرؤوس. أنات طويلة تشكو في جوف الليالي. سبيل الحياة انقطع من البلدة. ماذا في وسع الأهالي فعله بعدما حل البوار بهم و توقف المطر عن الانهمار هذا الشتاء؟ .
أول عام يشعرون فيه بقيمة الماء في حياتهم. حلوقهم الجافة تبرهن على موتهم المقترب لا محالة ..
فصل الشتاء ينتصف و الغيث يأبى عليهم زيارة و لو خطفا.
أي شنيعة ارتكب القوم حتى عوقبوا بالحرمان؟!.. ..مؤكد أمر فظيع !!.
***
في طرف خفي من الجبل كانت تسكن “أمك طمبو” في داموسها الدافئ. متوارية عن أنظار الفضوليين. لا تخرج إلا نادرا متخفية في ردائها و رأسها المغطى ببرنوس “شكارة الخيشه” .لا أحد يزورها و لم يرها أحد منذ شهر مارس من العام الفائت.
عمرها لا يمكن تقديره فهي عجوز مخضرمة واكبت الأجيال التي تعاقبت على البلدة. ذاكرتها معبئة بالأحداث و المواقف. تحفظ التاريخ و تسرده في ساعات وجيزة.
قصدها أحدهم يوما و هي في بيتها في البلدة يأخذ عنها بعض ما تكنزه من معارف. كشفت له سرا دفينا يخص “مختار البلدة” و عائلته.
أذيع السر و وصله طراطيش منه! . . عليه لملمة الفضيحة و تبرئة نفسه و عائلته مما نسب إليهم قبل أن يصدقوا ما قالته. اتفق جميع الأهالي على إقصاء ‘أمك طمبو” و إبعادها عن بلدتهم بحجة أنها عجوز خرفت و صارت عالة لا يستفاد منها.
***
في أول مارس غيمت السماء .تهللت البلدة فرحا. الشمس تحاول فك الحصار لتوديع الكهلة المسكينة فيما كانت السماء تغالب دمعها الحزين جراء ما تشهده مآقيها من ظلم و زيف.
“يغطي عين الشمس بالغربال!!”.
نظرت حولها. ابتسمت و لمعة تزين عينيها الغائرتين ثم توارت عنهم.
غادرت معها السحب إلى غير رجعة.
***
كل شيء يصطرخ و يتغوث مناديا “أمك طمبو”….. “أمك طمبو يـاالله …صبي الخير انشاالله”.
هل تسمعهم في داموسها القصي فتلبي النداء؟!… ”
___________________________________
2-أكتوبر