حوارات

الكاتب والناقد الليبي أحمد الفيتوري لا وجود للمؤسسة الثقافية في ليبيا!

لا وجود للمؤسسة الثقافية في ليبيا!

 

حاوره: محمود قرني

بمناسبة وجوده في القاهرة لحضور فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، كان الحديث متصلا مع الكاتب والشاعر والروائي الليبي “أحمد الفيتوري” الذي أصدر ديوانا جديدا، هو ديوانه الأول، تحت عنوان “قصيدة حب متأبية” وذلك عن إصدارات مجلة “عراجين” التي تصدر من القاهرة ويقوم على رئاسة تحريرها الكاتب الليبي “إدريس المسماري”. والديوان لافت بكل المقاييس، فهو يقفز على واقع القصيدة الليبية الأقرب الى التراث الكلاسيكي منه الى العصرنة والراهنية، وفي هذا السياق يختزل الديوان مع عدد من دواوين الشعراء الجدد في ليبيا مسافة طويلة في تجاوز شعرية المكان لمأزق انغلاقها السياسي والاجتماعي، وتأتي من هذه الناحية أهميته. وقد كانت فرصة إلقاء الضوء على واقع الثقافة والشعر الليبيين في عمومهما حاضرة في هذا اللقاء، لا سيما وأننا لا نعرف الكثير مما يحتدم داخل هذه البقعة. وقد استطاع الفيتوري المثقف الجاد والمتميز أن يدلنا ويضع أيدينا على الكثير من البؤر المضيئة والسالبة في نفس الوقت.

وقد سبق للفيتوري أن أصدر عددا من المؤلفات منها رواية “سريب” الصادرة عن دار الحضارة العربية عام 2001، وأصدر “قصيدة الجنود” وهو كتاب في المسألة الشعرية الليبية، و”ستون الشريف” دراسة في قصص يوسف الشريف، ومسرحية “شيء ما حدث، شيء ما لن يحدث” وكتابه “في ذكرى رفيق” حول تجربة الشاعر الليبي “أحمد رفيق المهدي” وأخيرا اصدر الفيتوري ديوانه “قصيدة حب متأبية”.

 الكاتب: أحمد الفيتوري

حدثني عن تجربة ديوانك الجديد والأول في نفس الوقت “قصيدة حب متأبية” المفاجئ بشكل كبير بعد مسيرة طويلة لك مع الرواية والنقد؟

أنا أعتقد أن أي إنسان في الكون له علاقة بالشعر، وأنه يكتبه سواء كان تدوينا أو شفاهة وعادة ما يكون ذلك في سن المراهقة الأولى وبحكم تجربتي كصحافي كانت تصلنا أكداس من الكتابات الشعرية للشباب، أيضا من خلال علاقتي بالكتاب والأدباء العرب بالأساس عرفت أن هناك جانبا سريا في أغلب من عرفت وهو الكتابة الشعرية وبعضهم تجرأ ونشر ذلك كما تعرف، من هنا ابتدأت الشعر حيث ابتدأت المعرفة وكان لي دائما كراس سري يطلع عليه من أحب كثيرا أو أكره كثيرا، أما ما يخص كتاب “قصيدة حب متأبية” فهو كتاب مفاجئ لي بالدرجة الأولى، انبثق كينبوع مفاجئ في الصحراء من أثر قصة حب قصيرة وعنيفة وجدتني أريد أن أفرغ سمي فإذا به هذا الكتاب. ودون أية مبالغة كتبته في كسلي في شهر رمضان وعندما اطلع عليه ثلاثة من الأصدقاء وصاحبة الديوان وجدتني بحاجة شديدة للتخلص منه بالنشر، وهكذا لم يعد هذا الكتاب كتابي. أما إذا أردنا تقييده بتصنيفه بأنه من النثر أو من الشعر أو كما اصطلح “قصيدة نثر” ففي ليبيا ثمة ميزة أن الخصوصية تكمن في أنه ليس هناك خصوصية وعلى ذلك فالناقد الليبي الرائد والشهير خليفة التليسي منذ منتصف الأربعينيات كان يرى أن العرب رأوا القرآن كتابة شعرية، تأسيسا على ذلك قصيد النثر في ليبيا كتبت مبكرا ولم تجد معارضة ولا تأييدا ولهذا عاشت حرة. من هنا علاقتي بقصيدة النثر طبيعية وليس فيها افتعال.

بأي معنى تفهم هذه الحرية الممنوحة لقصيدة النثر في ليبيا؟ ألا يعني ذلك غياب للمعيار بالأساس؟

أفهم ذلك باعتباره ظاهرة صحية لأنه يمنح الأدب حرية وعدم وجود عوائق حادة لا يعني عدم وجودها بالمرة ولكن هناك زاوية في التمرد يتيحها غياب الآباء بالمعنى الفريدوي الحاد، وأيضا نتيجة لصلات العربية المباشرة والفاعلة، حيث نجد صدى آنيا ومباشرا للنتاج العربي في العموم في ليبيا، فالحقيقة أن النظام الملكي السابق يكاد لم يصادر كتبا شهيرة ومهمة في الثقافة العربية، فكنت تجد في “ظلال القرآن” لسيد قطب، إلى جانب رأس المال لماركس في المكتبات الصغيرة، وأيضا الصحف العربية الصادرة في بيروت والقاهرة وحتى بعض الدول العربية الأخرى. من هنا أمكن للقارئ الليبي فسحة واسعة من الإطلاع والتنوع في هذا الإطلاع، فقد قرأنا ونحن صغار رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” في طبعتها اللبنانية حين كانت ممنوعة في مصر وهكذا.

اعتمد الديوان على القصائد القصيرة والمكثفة، هل هناك تصور وراء هذا الانحياز؟

أنا أعتقد أن الشعر يكمن في الظل وحتى القصائد الصادحة المباشرة التي تهتم بقضايا آنية إن كانت قصائد، فإننا نجد الشعرية فيها، في ظلالها، أي أن الشعر بهذا الشكل جُمل قصيرة مكثفة حتى فيما يسمى بالمطولات، وفي التجربة الشعرية الشعبية الليبية تربينا على قصيدة تسمى “غينوة العلم” وهي عبارة عن بيت شعري صغير يتكون في حدّه الأقصى من ثماني إلى عشر مفردات فقط، وأعتقد أن هذا يوجد في التجربة الشعرية الإنسانية عموما مثل الهايكو في اليابان واللاندي الأفغاني وما إلى ذلك. فالشعرية بهذا هي حالة من التكثيف الشديد والعلاقة الاستشفافية لما يعيشه الشاعر من حالة في الزمان والمكان، وكل ما يمكن أن يظهر في الكثير من المنشور من القصائد المطولة كما يقول “إدغار آلان بو” هو عبارة عن قصائد قصيرة مترابطة شكلا.

ديوانك كله من قصيدة النثر، فكيف ترى حال المقول عن راهن هذه القصيدة؟

للأسف هناك حذر وثرثرة حول الشعر عموما في التجربة العربية أكثر منه درسا وبحثا، وهكذا قصيدة النثر فما يدور حولها يدور خارجها في الحقيقة لأنه يدور حول القضايا والهموم العامة والإشكالات الفلسفية والسياسية رغم الادعاء بأن الموضوعة تدور في التجربة الشعرية ذاتها، فالقول بأنها مثلا قصيدة يومية تعتني بالتفاصيل في تقديري هو نوع من الشعارية أكثر منه تحليلا لهذه القصيدة ونجد مثل ذلك الكثير من الشعارات لهذا أرى أن النقد لم يتماشَ مع قصيدة النثر في الحقيقة وأنها تجربة رغم طول عمرها لم تتم دراستها دراسة عميقة وأعتقد انها الآن تمثل المشهد الشعري العربي وأنها متنوعة وبألوان الطيف وبذلك تلزم دراستها في التجربة الشعرية لكل شاعر مهم على حدة أولا حتى نتمكن من استنباط مفاهيم عامة حول هذه التجربة التي أعادت الشعر للشعر.

وكيف ترى المشهد الشعري الليبي في راهنه؟

المشهد الشعري الليبي في عمومه لا يختلف عن المشهد الشعري العربي وقد مر بالمراحل ذاتها من كلاسيكية جديدة الى رومانسية ومن العموم الشعري الى التفعيلة الى النثري لكن هناك خصوصية يمكن الإشارة إليها هنا لأن فيها جانباً من الطرافة حيث نجد أن القصيدة الكلاسيكية الحديثة انبثقت من الزوايا السنوسية وهي الدعوة الدينية الإصلاحية المعروفة حيث نجد بعض شعرائها كانوا على علاقة مباشرة بمحمود سامي البارودي وبالتجربة الكلاسيكية الشعرية العربية وكان بعضهم من دول عربية عدة حيث ضمت هذه الحركة الدينية الإصلاحية شخصيات عربية عدة من اليمن والسعودية ومصر، وهكذا وجدت هذه القصيدة في السنوسية الدعم والاحتفاء فشيخ من مشايخها هو محمد المهدي ابن المؤسس كان يكتب الشعر الكلاسيكي الحديث وكان مجلسه يضم شلة من شعراء هذه التجربة، وإن كانت لم تصدر في دواوين لكن تم تداولها شفهيا وفي بعض الكتب التاريخية كما تم الاحتفاء بأول ديوان شعري صدر في ليبيا عام 1892 للشاعر “ابن ذكرى” وهو شاعر تماس مع هذه التجربة وايضا كان مطلعا بشكل عميق على الشعر الأندلسي ومن المعروف ان الموشحات الأندلسية كانت هي الشعرية في طرابلس عاصمة ليبيا، كانت الكثير من القصائد والموشحات لابن الخطيب وغيره تتردد على الالسن وتغنى في ما يسمى بـ”المألوف” وهو نمط من الغناء الأندلسي المعروف وفي تقديري أن هذا شكل أرضية لانبثاق الشعرية الرومانتيكية في ليبيا ولهذا نجد للمدرسة الجبرانية صدى واسعا في ليبيا ومبكرا وهناك كتاب نقدي مهم للأستاذ خليفة التليسي هو “الشابي وجبران” نشر في الصحف في الأربعينيات ويعتبر دفاعا مستميتا عن الشعرية الرومانتيكية، وشكل هذا الكتاب النظرة النقدية للرومانتيكية عموما بخلفية منبثقة من الشعرية الإيطالية التي ترجمت بعض من نصوصها في ليبيا الثلاثينيات واطلع عليها مباشرة حيث كان كثير من الكتاب والأدباء يجيدون هذه اللغة، كما ان هناك شاعراً ليبياً معروفاً هو “إبراهيم الأسطى عمر” عاش في مقتبل عمره في الشام وقد ساهم هذا الشاعر في نشر الشعرية الرومانتيكية الشامية المعروفة بخصوصيتها لدى كل النقاد والمهتمين، وبعض شعراء هذه المدرسة هم الذين كتبوا قصيدة التفعيلة وتحولوا فيما بعد الى ما يصطلح عليه النقاد بالقصيدة الواقعية مثل الشاعر “علي الرفيعي”، وفي داخل هذه التجربة بشكل عام هناك شاعر خارق للأجيال وللتجارب الشعرية هو “علي صدقي عبدالقادر”لذي كتب القصيدة العمودية الرومانتيكية والتفعيلية والنثرية ايضا وبشكل متجاور ومبكر حيث نجد له قصائد نثرية في الثلاثينيات من القرن الماضي الى جانب القصيدة العمودية وكان من أوائل من كتبوا قصيدة التفعيلة في مطلع الخمسينيات ونشر ديوان “أحلام وثورة” الذي ضم هذه القصائد، وساهمت هذه التجربة في وضع أرضية لقصيدة النثر في ليبيا في فترة مبكرة.

وكان هذا الرجل الذي اخترق الاجيال يسمى “الاسم الحركي للوردة” واحتفى به الشباب خاصة الذين يكتبون قصيدة علي صدقي عبدالقادر ذات خصائص مميزة في قصيدة النثر منها أنها تنحو نحو الكتابة الساذجة بالمفهوم النقدي فهي تعيد تشكيل الحالة في تكونها الأول والذي يشير إليه فرويد بأنها الكتابة “الحلمية” التي تستمد تشكيلها من الحلم، وتيمة علي صدقي عبدالقادر هي هذه فالقصيدة التي كتبها تبدو من الخارج متفككة ولكنها ذات صلة حميمة بالقصيدة السريالية الفرنسية ولكن من خلال التجربة الإيطالية على الخصوص حيث كان هذا الشاعر على صلة مباشرة بالتجربة الشعرية الإيطالية وهكذا سنجد فيما بعد بعض الشعراء الليبيين من الأسماء اللاحقة لهم على علاقة مع التجربة الشعرية الأوروبية مباشرة مثلما تحقق هذا في تجربة “عاشور الطويبي” الذي عاشر ودرس في ايرلندا.

وأخلص من هذا الى أن التجربة الشعرية الراهنة تتسم بالتعدد والتنوع حتى يكاد كل شاعر يكتب قصيدته النثرية، ومن الأسماء المهمة الآن في التجربة الشعرية الليبية محمد الفقيه صالح وفرج العشة ومفتاح العماري وسالم العوكلي، وفاطمة محمود، وسمير ابو زيد وغيرهم.

وكيف ترى على ضوء هذا العرض الموضوعي، صراع الأشكال الشعرية؟

أولا أعتقد أن الشعر لا يمكن تصنيفه من خارجه وأعتقد أن القول بأن هذه قصيدة تفعيلية وهذه قصيدة عمودية أو نثرية هو حديث حول الأدوات أكثر منه حول الشعر فالشعر يمكن أن يكون في قصيدة عمودية أو نثرية لكن ما يدور في الأحاديث النقدية والندوات هو محاولة لإيجاد الشرعية لتجربة شعرية مثل القصيدة النثرية مثلا التي قد تواجه بتراث الشعرية العربية “الوزنية”، لكن هذا لا يعني اننا نتحدث عن الشعرية حين نقول بأن قصيدة التفعيلة انتهت بشكل قطعي أو أن العمودية انتهت بشكل قطعي فكثيرا ما نجد ما يتحدث عنه شعراء القصيدة النثرية من التجربة اليومية وأنه لا مجاز موجودة في قصيدة عمودية أو تفعيلية وهكذا أجد أن كتابة لشعراء تفعيلة هي كتابة نثرية بغض النظر عن المظهر الوزني لهذه القصيدة، فكيف نبرر ذلك غير أنه لا يكمن في الأدوات وأنه صعب التحليل والقبض عليه فالكثير منا يقرأ الشعر منذ الفراعنة وحتى الآن مندهشا ومغتبطا بهذه القراءة. إن عدم تبرير ذلك بشكل قطعي يعني ان الشعرية تكمن في خارج أدواتها من نثر ووزن.

وكيف ترى دور المؤسسة الثقافية في ليبيا وما هي طبيعة علاقتك بها؟

في ليبيا ليست ثمة مؤسسة بالمعنى المتعارف عليه هناك بعض القطاعات الثقافية والإعلامية من لزوم الدولة الحديثة المظهرية المحضة، أما على مستوى الواقع فإن الكاتب الليبي يواجه إقصاء متعمدا وتعسفاً في كثير من الأحيان، فأغلب الكتاب الليبيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة مروا بالسجن وأغلبهم لم يتمكن من إصدار كتاب، إلا على حسابه الشخصي وطبعه في مصر أو لبنان أو تونس، وكثيرا ما صودر هذا الكتاب وقد يعجب القارئ إذا قلت أن هناك كتبا صدرت عن الدولة وصادرتها الدولة ايضا، ففي الفترة الأخيرة صودرت كتب صدرت عن مركز الكتاب الأخضر وهي عبارة عن دواوين شعر ومقالات صحافية نشرت في الصحف، كما أن هذا الكاتب لا تتاح له فرصة في القليل من الأجهزة الإعلامية الموجودة، وقد تستغرب إذا ما قلت لك أن ليس في ليبيا صحافة بالمرة وأن الصحف العربية والمجلات الأدبية لا تدخل الى ليبيا إلا إذا هربها هذا الكاتب أو ذاك عندما يكون خارج البلاد، وهكذا فالوضع الثقافي الليبي محتقن ويعتمد بشكل إطلاقي على المجهودات الفردية لهذا الكاتب أو ذاك، سواء كان كمطلع وباحث أو كمنتج للإبداع والفكر ولا تجد أياً من نتاج الكتاب الليبيين يدرس في المدارس أو الجامعات بل على العكس فإنهم غير معروفين عند الأجيال بشكل عام وإن اشتهر البعض منهم خارج البلاد مثل إبراهيم الكوني الذي قدم عبر دور النشر والصحافة العربية.

صحيفة القدس العربي اللندنية – 17 يونيو 2009

مقالات ذات علاقة

أحمد البخاري…موقعي لن يكون محصورًا على إنتاجي فقط

المشرف العام

ليبية تسعى لتكون أول مذيعة محجبة بالتلفزيون الأميركي

نهلة العربي

البوراوي: بعض الفن التشكيلي التركي أصوله ليبية (1/3)

المشرف العام

2 تعليقات

معا من أجل التعريف بأدبائنا وعلمائنا فبارك الله فيكم 18 أبريل, 2012 at 19:29

السلام عليكم ورحمة الله
أتمنى الحصول على إيميل الأديب والناقد الكبير أحمد الفيتوري

رد
المشرف العام 19 أبريل, 2012 at 05:48

تحياتي أخي الكريم

سيتم أرسال الإيميل على عنوانك الإلكتروني

ننتظر مزيد متابعتك

تحياتي

رد

اترك تعليق