ذاكـــرةٌ
كانت ذاكرتُهُ تُؤنِسُهُ فِي وحدته، وتَمْلأُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ الرَّتِيبَةَ، وتجلبُ لهُ مشاهد وصُور وأصوات أناسٍ يُحبُّهُم كانُوا معهُ يوماً، تفاصيلُ البيت والمكتب الفوضويِّ والمطبخ والحديقة كُلُّهَا مَحْفُورَةٌ في ذَاكِرَتِهِ..، وعـندما وَصَلَ إلى أعتاب السَّبْعِينَ نَزَلَ فِي محطَّة فَقْدِ تِلْكَ التَّفَاصِيلِ، فأصبح يَعِيشُ بِلاَ دِفْءٍ ولا مَاضٍ.. اغْتِرَابٌ عن كُـلٍّ شيءٍ، ورحيـلٌ قسـريٌّ لذكريات مضت بلا عودةٍ، فأصبح يبكي كل يوم، وينتظر المحطة الأخيرة..
فـــرارٌ
حظر إلى مكتبه مُسرعاً، لمْ يتناول حتى طعام فطُوره، ولمْ يُحكم رَبْطَ خُيُوط حذائه الرَّماديِّ البالي، وحين صعد سُلَّم الدرج المُوصل إلى مكتبه نظر إلى نفسه صُدفةً في مرآة مُعتمة قديمة كانت هُناك، فتوقف بُرهةً، شعر فيها لأوَّل مرَّةٍ أنَّهُ بشرٌ!، أحْكَمَ رَبْطَ خُيُوط الحِذَاءِ، ومزَّق قناع الزَّيف الذي يرتديه، ثُمَّ قدَّم استقالته، وفـرَّ إلى زنبقته الحزينة، ليُكمـل معهـا مشـوار الحياة القصير..
فـزعُ الكوابيس
من هُنا منظـرُ الغُرُوب يبدُو أجملُ، قُرْصُ الشَّمْسِ يَتَمَـاهَى مَـعَ الأُفُـقِ، وجـدَّتي تنسـجُ لي بمغزلها العتيق تمائم الحُبِّ الخالد، أتلقفُها، ثم أركُضُ مُسـرعـاً كغـزلان الوادي الشَّـاردة. أقرأ في ظُلمة الليل تفاصيل حكايا لم ترو بعد عن رصيف الغُربة وصمت الشوق، وأحلام الطفولة البائسة، المُنتشية دومـاً برُوح البَهْجَـةِ والفَـرَحِ، وعن فـزع الكوابيس؛ حين يتسللُ إليها وميضُ الذكريات فيُحـوِّلهـا إلى رمــادٍ.