مروان بن جبودة


ولقد كنت تدرك بوضوح أن الأشياء ليست كما تبدو الآن أمامك , وأن ذلك الشيء الخفي الذي كان يربطك بهم قد تحطّم للأبد , وأنك غير مستعد بعد اليوم لتصحيح الأمور , وأنهم ليسوا إلا انعكاسات باهتة لذاتهم القديمة , و أنّ الحياة لديك انتهت وإنك لست إلا موت مؤجّل .
لماذا تتردد هذه الكلمات دائماً داخلك ؟ وخاصة كلما استيقظت في الصباح , بمجرد أن تفتح عينيك تردد شفتاك بلا إرادة منك هذه الكلمات وكأنها أصبحت نشيدك الصباحي اتجاه الحياة , صوت العصافير مزعج حقاً ويبعث على السأم ولا تعلم أي جمال في هذا الصوت .
ولقد كنت تدرك بوضوح أن الأشياء ليست كما تظهر الآن أمامك , وأن تلك المشاعر التي كنت تكنّها اتجاههم تسرّبت من داخلك , كالماء في وعاء ضخم موضوع على التراب به ثقب صغير , فتنسلّ منه المياه دون أن تشعر بذلك وتتوهّم بأنه لا يزال ممتلئ حتى إذا احتجت له ورفعته وجدته فارغ .
وأن ذلك الشيء الخفي الذي كان يربطك بهم قد تحطّم للأبد , أنت معهم ولست كذلك , تتحدّث إليهم ولا تسمع صوتك , تشعر وسطهم أنّك وحيد , إنك على خشبة مسرح , والظلام يحيط بك , أنت داخل هالة من الضوء , ضوء يظهرك ويحصي كل حركاتك وأنفاسك .
وأنك غير مستعد بعد اليوم لتصحيح الأمور , فعندما جلست معها بعد مطالبات حثيثة ورجاء منها , ذلك الرجاء المكلل بالدموع والأمنيات , كانت تتحدث طوال الوقت وأنت صامت أمامها تنظر ما ورائها , ورغم ذلك تحاول أن تنفث دخان سجائرك بعيداً عنها , تقول لك ” ما بك ؟ ” وترد عليها ” ما بي ؟ ” فتقول ثانية ” أنت لست هنا ” فتقول أنت ثانية ” أنا لست هنا ” فتهم بتركك فتمسك يدها برفق وتقول لها : ” إن الحرب .. إن الحرب هكذا لا بد أن تترك شيئاً “.
وأنهم ليسوا إلا انعكاسات باهتة لذاتهم القديمة , ” هل تعتقد انك الوحيد الذي تعيش هنا وتتأثر بالوضع , انظر حولك كلنا نقف على ذات الجمر , فلا توهم نفسك وتضع العالم كله على ظهرك , إنك لا شيء ” تدير ظهرك إليهم , ليس كما السنين الأولى . بعد منتصف الليل تخرج من المنزل تتأكد أن الجميع نيام , تتسلل بحذر , تخرج للشارع والهواء البارد يصفعك , تحكم ياقة المعطف وتدخل كلتا كفيّك في جيبه , وبماذا يفيد المعطف , تمشي طويلاً , تمشي وتمشي و ملوحة البحر تحرق عينيك إذاناً على قربك منه , ليس البحر بعيد عنك , هو شارع وحيد يفصلك عنه , تتأكد من أن الحبل معك , في غرفتك تحت الضوء تأكدت من إحكام عقدته , ولكن على كل حال يجب دائماً أخذ الاحتياط , تمشي وتمشي , عبرت السياج القصير , عبرت ذكرياتك البعيدة , عبرت تلك الوجوه الكثيرة , الروائح والألوان , غاصت قدماك في الرمال , تحاول أن تسرع كأنك تمشي على الهواء , انتهت الرمال و جاءت الصخور , صخرة وراء صخرة , حفرة وراء حفرة وهدير الموج لا يتوقف , والأمواج تعلو وتعلو , والهواء يتشابك مع الماء حتى يصيبك الرذاذ بقوة , ولكنّك قررت أن لا تتراجع , فتصعد وتصعد , وفي نهاية الجرف الصخري ممر صغير , شق خلفته الآف الأقدام التي مرت من هنا , تقف في الأعلى وتواجه اندفاع الهواء , تمد ذراعيك و ترفع رأسك للأعلى , تتنفس وتتنفس , أنفك يزفر الهواء الساخن , لا تشعر به ولكن الأنف دائماً يخرج الهواء الساخن , تنظر إلى البحر , تنظر و تنظر , تتراجع قليلاً تخرج سيجارة من جيبك و تتكوم على نفسك لتشعلها , تسحب دخانها تسحب وتسحب ثم بعد ذلك تقرر العودة من حيث أتيت فلست إلا موت مؤجل.