من أعمال التشكيلي صلاح غيث.
قصة

أبو سعدية

من أعمال التشكيلي صلاح غيث.
من أعمال التشكيلي صلاح غيث. الصورة: عن الفيسبوك.

كان يكنى (بأبي سعدية) لا أحد من سكان مدينة (بنغازي) يعرف كيف جاء ذلك الاسم سوى لرجل أسود قدم من مجاهل أفريقيا… لا أحد من سكان المدينة يدري من أين أتى ذلك الرجل فلا نعت له ما بين السكان سوى ذلك الاسم الذي أطلق عليه سكان المدينة نعت لبشرته السمراء.. فلا أحد من سكان المدينة يعرف اسمه الحقيقي وفي الواقع لا يريدون ذلك.. فذلك النعت يناسب بشرته السوداء؟!!

التسميات في بلادنا تحمل طابعاً غربياً عن الإنسان.. أي تغريب ذاته.. هذا بوحميرة.. وذاك بومعيزة.. والقطوس.. وكل أسماء الحيوانات البذيئة.. وهكذا نعوت خارجة عن الوصف الإنساني.. تلك الثقافة لازلنا نحمل إرثها حتى يومنا هذا.. ولعل الناس درجوا على تلك التسميات لامتهان الإنسان لأخيه الإنسان والط من قدره ليكون نكرة حتى في وطنه وبين أقرانه.. فليس هناك هوية تسميه الإنسان في بلادنا بأنه أنسان بل خارج عن الإنسانية؟!! ولعل تلك النعوت وصف بأن المواطن في بلادنا نكرة..

الرجل لا تربطه أية علاقة بمدينة (بنغازي) فهو لم يولد فيها ولا يحمل ذرة من تراثها الثقافي.. الكثير من الناس يقولون إنه ضل الطريقة.. هو قادم من أفريقيا ليرتمي في أحضان شوارع (بنغازي).. ليبيا الخمسينات لم تكن بها حدود ولا قيودات على القادمين أو الذاهبين منها.. فلم تكن تعرف لا الجوازات ولا شرطة الحدود ولا حتى بما يسمى بالجمارك اليوم.. فكل قادم كان مرحباً به كانت أبواب البلاد مشرعة لكل قادم ولم تكن هناك حدود حتى عبر الشمال الأفريقي وجنوبه.. والرجل لا يعنيه أن يكنى بـ(أبي سعدية) أو بأي اسم آخر.. لأنه لا ينتمي لهذا الوطن إلا جسديا.. كان هذا دأب الناس في نكران الذات.. مفهوم انتمائه جعل منه شخصاً بدون هوية.. إنه فاقد المواطنة حتى ولو دعي بألف اسم غير اسمه الحقيقي..

الرجل كان يطرق شوارع المدينة جيئة وذهاباً.. وكان يرتدى زياً غريبا حيث الريش يغطى رأسه ويزين خاصرته بعقد من العظام كان قد التقطها من فضلات المنازل.. وقد كان يزين جسده بزينة اللباس الأفريقي.. ليعلن عن نفسه.. وليقول من حوله أنا هنا.. وكان يحمل طبلاً صغيراً وسط خصره يضرب عليه عندما يبدأ برقصاته الأفريقية المحمومة وسط الناس..

كان زبائنه من الأطفال الصغار الذين يلتفون حوله وهم يصيحون (بو سعدية.. بو سعداي).. ولعل الأطفال يريدون أيضاً أن يبرزوا ذواتهم بتلك الأيقونة.. وحتى ذلك الرجل يريد أن يقول لسكان بنغازي أنى هنا رغم أنى لست منكم  و لا أنتمي لكم.. وكان كلما علت الأصوات من حوله مرددين اسمه تشتد هستريا الرجل في رقصاته  المحمومة.. فقد كان يضرب الأرض بعنف وهو يدور فى حلقة طارقاً على طبلته الصغيرة التي تتوسط خصره.. فكانت دقات الطبل وعنف الرقص تتراءى له وهو يطارد فريسته عبر الأدغال في بلاده.. وكان يتهيأ له وهو يرقص أنه ما زال هناك.. وهو حر يطارد فرائس من حوله.. فالرجل يريد أن يقرر ذاته وسط بلد لا ينتمي إليه ولعله يريد أن يستولد ذلك الزمن الذى عاش فيه.. أو يستولد اعتراف من حوله أو أنه يريد أن يعاود ذلك الحلم الذى لم ينفك عنه وأراد أن ينزع عنه غربته بين الناس وليقول لهم أنى هنا.. ومن ثمة فهو يبحث عن ذاك المفقود الذي تركه وراءه..

كان الرقص والضرب على الطبل ليس أمتهانا لحرفة الارتزاق.. لكنه لم يطلب قط من أحد إحساناً.. كان عزيز النفس؟!! فكل ما يريده الرجل من رقصاته أن يعلن عن نفسه بأنه هنا؟!! وكان دائماً يلوذ بالصمت لم نراه ينبس ببنت شفه.. وحتى وإن شعر أنه اجتثّ من جذوره في وطنه هناك.. إلا أنه مازال يشعر بآدميته في أن يكون حراً حتى في غربته.. لكن كنت ترى عينيه وهى تشع بعض الأسى والحزن.. لقد وهب جسده لسكان (بنغازي) ولكن دون روح.. أقسى ما على الإنسان أن يعيش بلا وطن أو هوية؟!! أو أن يعيش في وطن لا يحمل هويته الحقيقية؟!!

أبو سعدية وهب جسده (لبنغازي) وغابت روحه.. فلماذا أحب سكان (بنغازي) تلك الشخصية وكانوا يتندرون بها في جلساتهم الخلوية؟!! وقد يكون يعكس شخصياتهم لأنهم كانوا مواطنين ولا يحملون من المواطنة سوى تعريف.. لقد لفهم المكان والزمان دون معرفة؟!! تشعر بأنهم يتعاطفون معه ولعلهم يعانون نفس المسار في سابق عهدتهم   وقد كانوا غرباء عن وطنهم وهم يعيشون أحداثه…

يذكر والدي في زمن الاحتلال.. أن الشرطة الإيطالية (الكاربوناري) قد انهالت عليه بالضرب دون ارتكاب جريرة ضد السلطات حتى فقد وعيه وظل مطروحا وسط الشارع من شدة الضرب.. دون أن يجرأ أحد من المارة على ملامسته.. وظل على هذا الحال ملقي به في الشارع طوال اليوم.. حتى التقطه بعض الناس بعد أن أسدل الليل سدوله خلسة وسط الظلمة؟!!

كان والدي مواطناً من الدرجة الثانية أو قل لا درجة له؟!! ويذكر والدي أنه دائماً كان يسير جنب الحائط عند مشاهدته للشرطة الإيطالية وهى تذرع الشارع خوفاً من السؤال الذي قد يفضي إلى امتهان كرامته أو قد يصيبه أذى منهم.. فهم لا يلقون أدنى اهتمام لآدمية الأنسان الليبي.. فحقوقه كمواطن لم تدرج ضمن بطاقته الشخصية؟!! كان المواطن في بلاده لا يملك هويته وهو بمثابة حيوان ضال يوقف في عرض الشارع وقد يهان ويفتش دون استئذان من أحد.. ويلقى به في غياهب السجون دون سؤال؟!!

سكان المدينة لازالوا يذكرون تلك الأيام.. حيث سلبت منهم هويتهم بأنهم مواطنون.. ولعلهم يذكرون ذلك التاريخ ويتعاطفون مع هذا الرجل الذى تغرب عن وطنه.. ويبادلونه ذات الشعور.. شعور الغربة عن ذاته..

في أحد الأيام افتقد الناس (بو سعدية).. لم يعد يشاهد في الجوار قط.. لعله أندفع قافلا لبلاده وأنتزع الغربة عنه الى الأبد ليعيش وسط أناس يدركون ذاته ويعاود نعته الذى فقده هنا.. وشعر السكان بالألم يسرى بينهم بفقدانه.. لم يعد لهم إلا أن يسردوا سيرته وسط المدينة.. ذلك الرجل الغريب عن وطنه.. وظل ذلك الرجل ملتصقا بأذهان الليبيين حتى هذه الساعة.. وأصبح جزءا من ذاكرة البلاد التي حملت الكثير من عدم الاعتراف..    

مقالات ذات علاقة

كذبت كارمن ولو صدقت

غالية الذرعاني

وجه أمّي وطن

محمد المسلاتي

منطقة نفوذ

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق